في غالبية دول الشرق الأوسط الموبوءة بانعدام سلطة القانون وفقدان العدالة الاجتماعية، ترتفع مستويات خط الفقر المدقع مع انخفاض مريع في الوعي والتعليم، حيث يتمّ تدمير الناتج القومي واستهلاكه في بناء ترسانات أمنيّة وعسكرية وأسوار من هياكل الحماية للنظم السياسية في كافة مفاصل الدولة، التي تحولت وبالذات جمهوريات الانقلابات ودول الربيع العربي المخدرة بالديمقراطية المستوردة إلى استهلاكيات سياسية واسعة، انتشرت فيها أنماط عديدة من العشوائيات النظرية والفكرية والسياسية التي بلورت نمط من الديمقراطية الفوضوية التي يمكن تسميتها بالديمقراطية العشوائية الناتجة من ذات البيئة التي تجمعت فيها هذه الفعاليات السياسية ومن مختلف الشرائح والطبقات والتوجهات، القبلية والقومية والدينية والمذهبية ومن كل الطبقات الاجتماعية.

هذه الديمقراطية التي هبطت بمضلة خارجية فوق مجتمع تكلست في مفاصله موروثات اجتماعية قبلية ودينية تتقاطع تماماً مع هذا الأسلوب في الحياة الاجتماعية والسياسية، وخير دليل على ذلك التجربة الديمقراطية الأخيرة في العراق منذ عقدين من الزمان، ناهيك عن تجربتي تركيا وإسرائيل اللتين فشلتا في الخروج من قوقعة القومية المفرطة والدينية المتزمتة، ولم تنجح في خلق مجتمع مدني حديث يقوم على مبدأ المواطنة الجامعة، بل حصل العكس وخاصةً في العراق حيث ٲنتجت التجربة كائناً سياسياً مشوهاً ووضعاً اجتماعياً قلقاً، اختلطت فيه تلك المصطلحات المستوردة مع المتكلسات الوراثية في بنائه الاجتماعي والديني وملحقاتهما من العادات والتقاليد والأعراف، بل ٳن مفهوم المعارضة في التجربة الجديدة سواء في كوردستان التي استقلت ذاتياً سنة 1991م والعراق عموماً منذ 2003م هو الآخر ٲنتج ضمن البيئة الاجتماعية وموروثاتها والسياسية وحداثتها كائناً هجيناً لا مثيل له حيث تشترك الأحزاب المتنافسة جميعها في السلطة وتقوم في ذات الوقت بدور المعارضة وهي شريكة أساسية في الحكم ومخرجاته وامتيازاته، وخاصةً في ابتداع نظام المحاصصة في الوظائف والمناصب وعلى مختلف مستويات السلطات حيث يمارس الجميع الحكم والاستئثار بعطايا وامتيازات الدولة المشرعنة من السلطة التشريعية بشكل مريع جداً، ناهيك عن ٲن كل هذه الأحزاب والمكونات عبارة عن دويلات لديها دكاكينها الاقتصادية وٲذرعها العسكرية (الميليشيات).

ولا تختلف بقية الأنظمة التي انبثقت من الانقلابات أو من التغييرات الفوقية بمساعدة الدول العظمى عن التجربة العراقية في ممارساتها ومضمون تفكيرها ٳلا بالعناوين والٲسماء، وقد أضاعت فرصة ذهبية لبلورة معارضة وطنية تحت ظلال المواطنة الجامعة، حيث تتكالب كل القوى على اقتطاع جزء من الدولة لتحويلها ٳلى دويلة وبقرة حلوب، حتى وصلت الأمور ٳلى درجة بيع وشراء المناصب الوزارية والأمنية والعسكرية بما يمنع قيام أي شكل من ٲشكال الدول الحديثة، بل على العكس أصبحت الدولة في هذه البيئة التي تهيمن عليها ثقافة القبيلة والطائفية عبارة عن غطاء ٲو ٳطار لهذا الشكل المشوه سواء في العراق أو في بقية هذه المنظومة من الدول التي تحتاج ٳلى تغيير جذري في بنية النظام السياسي وفي كثير من المفاهيم والنظم الاجتماعية ٲكثر من حاجتها ٳلى تداول السلطة بأدوات مشبوهة وصيغ لا تختلف في مخرجاتها عن طبيعة الأنظمة الدكتاتورية.

ما يتم ممارسته اليوم في هذه المجموعة من الدول التي اجتاحتها عواصف التغيير المدعوم خارجياً لا علاقة له بالديمقراطية التي عرفناها في الدول الغربية عموماً، رغم ٲنها ترتدي عباءة الديمقراطية وتستخدم بعض ٲدواتها في الظاهر وتبطن في داخلها نظاماً شمولياً متشدداً بأدوات دينية ٲو مذهبية ٲو عنصرية حتى أصبحت الديمقراطية في بلداننا كالعاهرة المحجبة!