لكلّ مهنةٍ نعيمُها وجحيمُها! وينطبق هذا كذلك على العمل الأكاديمي؛ إذ إنني عشتُ معه سنوات وسنوات بالعديد من المتناقضات؛ فهو حصيلة مجتمع يبحث عن هويته الضائعة في هذا العالم، وانعكاسٌ لواقعٍ مرٍّ، مليء بالفساد والغيبيات والتفاهات الاجتماعية، والقيم البائدة في التفكير وأزمة صناعة المستقبل.

وفي ظل هذه المناخات المريضة بفكرة الثبوت، والعلل والمعلولات التكوينية للتعليم، وفي ظل الاستبداد والقمع، وكهوف الظلام، تصبح الأجيال المتراكمة عائقاً في بناء الحياة العربية الجديدة؛ بمعنى أن الجامعات لم تعُد مختبراً لإنتاج وتفجير الذكاء المهني والمعرفي، والتحليل المنطقي للمعارف، بقدر ما هي خلاصاتٌ للنمطية والبلادة المعرفية، التي لا تستوعب متغيرات العصر وأسواق العمل المستقبلية.

وبالمختصر المفيد، فإن الجامعات في الدول العربية أصبحت أشبه بالمصانع القديمة التي أُنشِئت وعاصرت زمن قطار الفحم الحجري، حيث الاهتمام بالكم لا بالكيف؛ فزادت من إنتاجها الكمي ونَدُرَ إنتاجها النوعي، من دون أن يطرأ عليها أي تغيير أو تطوُّر يُذكر. فالتعليم (ليس استعداداً للحياة، إنه الحياة ذاتها!) كما يقول جون ديوي.

عملت في عددٍ من الجامعات العراقية والعربية، ولم أجد فرقاً جوهرياً في نظامها التعليمي التقليدي، أو في مخرجاتها التعليمية، وتأهيلها للطلبة؛ لكن ربما وجدتُ فرقاً في حداثة المباني والتجهيزات العلمية، والحصول على المعلومة، والمردود المالي للأستاذ. لكن الأمور الأخرى تتشابه؛ من حيث مستوى الجودة والتلقين والتساهل مع الطلبة.

وعندما بدأت التدريس في الجامعة صُعقت ممَّا رأيته في هذا المعبد العلمي؛ حيث فوجئتُ بنظام تعليمي يعتمد على التلقين الممّل الذي يسير بالطالب إلى أفق وهمي وطريق مسدود؛ فلا تفكير ولا إبداع. إنه التعليم المهدرج، الذي يحوِّل العلم من مصدر لسيولة العقل المبدع إلى صلابة التفكير، وغلق منافذ الابتكار.

والقاعدة الذهبية تقول: إن هدف التعليم ليس معرفة الحقائق فقط؛ بل معرفة القيم، وإيجاد حالة مستمرة من التساؤل عند الطالب؛ لكي يفهم الحياة بطريقة صحيحة ومبتكرة. فالتعليم هو: (تدريب العقل على التفكير) كما يقول ألبرت أينشتاين.

ويمكن القول: إن خروج كل الجامعات والمراكز البحثية العربية من الترتيب العالمي لأفضل 500 جامعة على مستوى العالم، أمرٌ طبيعي ومنطقي، في ظل مناخ الاستبداد والقمع السياسي والعلمي، والبيئات الاجتماعية الملوثة بالقهر والغيبيات، والأوضاع المتردّية للنظم التعليمية العقيمة، وتدنِّي مخصصات التعليم والبحث العلمي، وانهيار التعليم ما قبل الجامعي، وما يسببه من تدهور للتعليم الجامعي، وهلهلة البحث العلمي.

نعترف من البداية بأن نظام جامعاتنا العراقية هو نفس نظام الجامعات العربية الأخرى؛ حيث تعيش أزمة مزمنة، لا تنفصل عن أزمة البيئة العربية الملوثة بفساد الأنظمة السياسية والأنساق الاجتماعية والتعليمية والتربوية؛ لأنها مازالت تجتر النظام التقليدي النمطي والتلقيني في نظامها وأساليبها وطرق التدريس بها؛ حيث إنتاج البلادة وتفريخها وترويجها، وتنشيط العلم الثابت وتجميد المُتغيّر، وتسطيح الأفكار وتعليبها، وتخريج أفواجٍ من معوّقي ومتخلِّفي العلم والابتكار.

صار التعليم الجامعي همّاً ووجعاً؛ لأنه أصبح معملاً لتحضير آلاف المركَّبات من الشباب المُعاق علمياً، هذا الذي لا يجد في الحياة إلا وظيفة مدير "بسطة" في أحد شوارع المدن، أو حانوتي متجولٍ لبيع الماء والذرة والجبس والنفط المهرَّب، أو سمسار في توزيع الكريستال الذي يُغيّب الناس عن آلامهم وأوجاعهم المزمنة!
إنه جيلٌ يدفع المالَ للجامعات ليدمر ما تبقَّى له من جينات الذكاء ، ويغلق كل أبواب الأمل في النفس.

التلقين في الجامعات هو الأخطر؛ حيث يمثل عملية غسل دماغ حقيقية، يتم فيها تفريع عقل الإنسان وإرادته من كل أشكال البديهة الذهنية الخلّاقة؛ فهو حشو الرؤوس بمادة كثيفة مليئة بالخُزعبلات العلمية لاغتيال العقل، وقتل كل إمكانات التفكير الشمولي والتقدُّمي في عقل الطالب، وغلق منابت التفكير، وتدمير كل أشكال النزوع العقلاني لضمِّه إلى قطيع الدَّهْماء!

المشكلة أننا نُعلّم العلمَ كما تعلمناه أيام التلفزيون الأبيض والأسود، دون النظر للعصر الذي نعيش فيه، حيث تكريس منهج التعليم البنكي من المذكرات والمختصرات والامتحانات التي تؤدي إلى فضاء التلقين والتجهيل؛ فيصبح العلم حفظاً، والمعرفة طاعة، والمنهج كتباً ومذكرات؛ وبذلك يتحوَّل التعليم إلى ثقافة (ذاكرة) تعتمد على التذكُّر واستحضار المعلومة دون فهم، فيُحجّم العلمَ والعقلَ العلمي، ويختفي العقلُ النقدي. بينما المطلوب هو أن (نضع كل ما يقرأه الطالب موضعَ تساؤُلٍ واختبارٍ وشَك) برأي (جورج كارلين).

ومشكلة المشاكل: أن عملية التلقين تتم دون محاكمة منطقية؛ حيث تشحن العقول بالمطلقات والخرافات والأوهام لتعطيل الطاقات العقلية والقدرات الإبداعية عند الطلبة، وتضعهم في معتقلات العبودية العقلية والإكراه المعرفي؛ بل يحّول الطلبة إلى مجرد طاقة سلبية بلا هوية، ودون وعي مستقل، مؤدية إلى تدمير العقل والعقلانية عند الطالب، وتعميق ثقافة النقل والاجترار.

من هذا المنطلق، فإن محصلة ذلك هو تشويه الملَكات العقلية والذهنية، وقتل روح المبادرة والاستنتاج والاستدلال والتفكيك والتأمُّل والتفكير والنقد. وهذا هو سر اختفاء صوت العلم في حياتنا، وانتشار ضجيج الجهل وضوضاء الجهالة في أوطاننا، وندرة المُبدعين، وموت المخترعات العربية!

آخر السطر؛ الطالب ليس دلواً يُملأ!، أو تُصب فيه معلومات المدرس المُعلَّبة!؛ بل هو كائنٌ بشري لديه الطاقة والقدرات الإبداعية الخلّاقة التي ينبغي تفجيرُها بالمعرفة. له حق التعليم الذكي لكي يُبدع ويبتكر، (فالتعليم ليس ملءَ دلو ...لكنه إيقادُ شُعلة) حسب رأي (ويليام بتلرييتس).
القاعدة الذهبية تقول: بناءُ الأوطان المزدهرة يبدأ من المقاعد الدراسية. هذا إذا كانت لنا أوطانٌ صالحة للعيش!، غير مشغولة بالتأثير المغناطيسي للخرقة الخضراء والبيضاء!، ومناقشة فوائد (بول البعير) في قتل الفطريات والبكتريا!، خاصة مع استمرار تواجُد البعران البشرية بيننا!