قادتني الصدفة إلى ما لم أكن أتوقع! فوسط الخراب الكبير يصعب وجود ما يسرُّنا أو ما نتمناه، ووسط فوضى الحياة والفساد المنظَّم لا يمكن إلا أن نكون يائسين من كل شيء، فالذاكرة العراقية مملوءة بمشاهد الدمار والدم المترسّب في الأنا، والأنا العليا؛ حيث فقدان الثقة، وانهيار منظومة القيم، والشعور بالإحباط والاكتئاب، وتلاشي الجمال في النفس. لذلك قد نُصدَم بالخيال الافتراضي، فنصحو على الأمل المفقود في حوادث الدهر وتقلباته، ونجد الضوء ليقودنا إلى الحلم الحقيقة.

وبدأت القصة بمرافقتي لزوج ابنتي (التدريسي) في جامعة الموصل إلى إحدى الجامعات الأهلية لأمرٍ خاص به، وهي كلية النور الجامعة، لرؤية أحد الأصدقاء القدامى؛ فاندهشت بما رأيته في الخارج، قبل دخولنا للجامعة؛ أرض واسعة بالزرع الأخضر والورود الزاهية، والنافورات، والبنايات الشاهقة التي تتجمّل بالزجاج اللامع، وبمداخل مُرتّبة بطريقة إبداعية، بواسطة التكنولوجيا الحديثة للدخول والخروج، واستقبال حضاري يُجيد فنَّ العلاقات العامة وبرتوكولات ومراسم الاستقبال.

لم أندهش للوهلة الأولى بالبنايات والساحات المزخرفة باللوحات الملوّنة والنافورات؛ فقد عشت في جامعات إماراتية ضخمة ما يقارب ربع قرن من الزمان، امتلأت عيناي بأبراج دبي وأبو ظبي العملاقة حتى تخمة البصر. ولكن دهشتي وتعجُّبي حدثا بسبب رؤيتي لجامعة عراقية أهلية ضخمة وحديثة، وهي تسكن في مدينة هجرها اخضرار الحياة وربيعها، فنصف المدينة مُدمَّر، والنصف الآخر يعيش على أمل البقاء، وهي تتحدى رُكامَ الإرهاب ومآسيَ الزمن وقسوتَه. جامعة تضئ عتمة الليل الطويل القاسي؛ لتبعث في البشر أمل الحياة، وتُعيد ربيع الموصل المتألق.

وعراقة أي جامعة ورونقها ليس فقط في جودة تعليمها، نعم هو الأهم، لكن المهم أيضاً هو مشروعها المجتمعي، وأعني به خدمة المجتمع، ومشاركتها في التفاعل مع المجتمع المحلي، وتقديم خدماتها في مختلف الميادين، خاصة في مدينة استيقظت على صدمة الحروب والتهجير والتخريب، وأصبح الفقر من كل الجهات يأكل أبناءها أحياءً قبل أن يكونوا في عِداد الأموات.

وقد سُررتُ وأنا أتجول في كلية طب الأسنان لمّا رأيت تلك الجموع الغفيرة من المواطنين في عيادة الأسنان يُعالَجون مجاناً بأحدث العيادات الطبية، والأجهزة المتطورة، وبإشراف أساتذة أكفاء ذوي خبرة طويلة، إضافة إلى الخدمات الطبية المجانية الأخرى؛ كتنظيف الأسنان وفحص الدم والضغط. كما سررت لمّا علِمتُ بإطلاق الجامعة المنح الدراسية المجانية بالكامل في جميع تخصصاتها. ومع ذلك يستغرب المرء أن تكون جامعة كهذه تحتل عشرات الدونمات من الأراضي، وفيها ستة عشر تخصصاً مازالت كلية جامعة رغم أن هناك جامعاتٍ أهلية لا تستحق منحها لقب (الجامعة).

وعندما تتجول في أخبار مواقعها الإلكتروني؛ ستجدها حاضرة في المجتمع الموصلي بحملاتها العلمية والتثقيفية والتوعوية لخدمة أبنائها؛ كمشاركة الطلبة في تنظيف شوارع الموصل؛ والحفاظ على البيئة بزرع الشتلات في ساحاتها، وتوزيع السلال الغذائية على العوائل الفقيرة والمتعففة، وتنظيم الدورات والورش المختلفة لقطاعات المجتمع. بل أصبحت مكاناً حيوياً لتنشيط العلم والثقافة والمعرفة من خلال المهرجانات والندوات التي كانت تُشكّل رافداً مهماً في إعادة الحياة الموصلية إلى ماضيها المجيد. فكانت الجامعة ملتقى الشعراء العرب وعلمائها من الأكاديميين، ورجال الثقافة والفن.

فلا خير لجامعة، مهما علا شأنها العلمي، أن تكون خزانة نقود لصاحبها، دون أن يكون علمها في خدمة المجتمع، وأن تتسلح بروحها الإنسانية، وتفتح أبوابَ الأمل للمدينة التي عاشت سنوات اليأس والرعب. ولا خير لجامعة أن تمنح العلم للأبناء دون أن يكون لها تأثير في الحياة اليومية، وأن تتسلح بقيم الخير، وخُلقِ المجتمع وقيمِه الاجتماعية. فقد شاهدنا جامعات عراقية تحوّلت إلى منتديات للردح والسفاهة والترهات والهوسات العشائرية والدينية، وبيع التعليم (الإكسباير) الذي لا يسمن ولا يغني من جوع!

ولأنني لست من أصحاب شرب الدخان والشيشة، بل ومن ألد أعدائها، فقد سُررت أيضاً بأن الجامعة منعت التدخين بين الأساتذة والطلبة في الساحات وداخل أروقتها، ووضعت لهم أماكن خاصة؛ احتراماً لقدسية المكان وهيبته العلمية. ووضعت شروطاً قاسية للسلوك والانضباط. بل إنني لمست الألفة والروح الأخوية التي تجمع العاملين، كما بهرني عميد الجامعة بتواضعه وأبوابه المفتوحة للجميع بدون بيروقراطية، وكذلك تلك العناصر الشبابية المتدفقة الحيوية التي تتولى مهام الإدارة والمختبرات والخدمات، وبذلك تساهم الجامعة في فتح باب الرزق للناس.

ويالها من صدفة عجيبة أن تتجول في الجامعة، وترى نفسك تجلس في مكتب صاحبها الشاب المستثمر، أو أحد مؤسسيها البارزين، وهو دكتوراه في هندسة الميكانيك، يتحدث لك بالتفصيل عن نشأة الجامعة من الألف إلى الياء، وتحدياتها ومشروعاتها وأحلامها، والإشاعات الكثيرة عنها. تجلس وتستمع له كمغناطيس معلومات. يكلمك كصديق قديم، يلغي حواجز اللقاء الأول. يتحدث بلباقة ويجيد مهارة التأثير على الآخرين، وله هدف محدد ليحقق ما يصبو إليه بتكتيكات لغة الإقناع واستخدام الذكاء العاطفي. كنت أستمع له بمنطق التأمل والخبرات العقلية والوعي الحسي، وأعرف ما بين الأسطر، وما يريد!

لا أدرى إن كنت مُخطئاً في الحساب والتقدير، بمنطق الرياضيات، في مشاهداتي الأولى، ومنطقياً في فلسفة الرؤية والتنبؤ، وقراءة كف المستقبل، أو كنت متأثراً بوهم الصورة الأولى، وصدمة الاندهاش؛ لكنني أعترف بأنني وقعت في فخ الجامعة المُدهش. (صياد صادوني!).