لم تكن مهنة (التدقيق اللغوي) معروفة في الصحافة لعامة الناس، فهم يقرأون ما يحلو لهم، ويختارون كُتَّابَهم، ويستمتعون بنصوص الصحافة، ولغتها الرشيقة، دون أن يعرفوا التفاصيل الدقيقة لأسرار التحرير وصناعة المقالات والتحقيقات والأخبار، وجنودها المجهولين الذين يصنعون جمالَ الصحيفة بالخطوط والألوان والصور، وأُبَّهةَ رشاقتها اللغوية، بدقائق نحوها وصرفها، وقواعد اشتقاقها، وطرق مقاييسها وبلاغتها، وخلوِّها من كل أخطاء اللغة؛ حيث تكون الكلمات مضبوطة على إيقاع ليس فيه نشاز.
وفي ظل فوضى النشر المفتوح، واختلاط الحابل بالنابل، ودخول المتسلقين على مهنة الصحافة والإعلام بمساعدة التقنيات الرقمية، وغباء إدارة المؤسسات الإعلامية!، فقد أصبحت مهنة المدقق اللغوي - إذا افترضنا وجودها من الأساس - أكثر صعوبة وعسراً في تلافي خطايا الأخطاء اللغوية (القاتلة)؛ حيث انهيار اللغة العربية في مجتمعات لا تلحن، وانتحارها في المؤسسات التعليمية والإعلامية؛ لتصل إلى الإسفاف؛ بل والانحطاط إلى الدرك الأسفل؛ لتصبح لدينا لغة متوترة بمعانيها وألفاظها وموسيقاها.
ومثلما شهدت حياتنا فوضى عارمة وتردِّيًا لقِيَم الجمال؛ فقد انعكس ذلك أيضًا على حال اللغة في الإعلام التي تم قتلها بسكين الطارئين، وأصحاب المواهب الضعيفة من إعلاميي الصدفة، حتى لم يعُد الجار والمجرور والفاعل والمفعول به يسير على سكة اللغة: فالجار لم يَجُرَّ عربةَ المجرور، والجملةُ الفعلية ينقصها الفاعل الذي يموت فيه الاسم بالنصب! واللغةُ العربية تحوَّلت إلى (نصب) لكثرة ما حلّ بها من مجازرَ لُغوية، وتقطيعٍ لأوصالها بالمسخِ والتشويه؛ حتى تهاوت في سِلالِ كلام ومصطلحات المقاهي والشوارع والمسلسلات التلفازية.
عشت تجربةً شخصية مع أبرز مدققي العربية في العراق، وهو الزميل تركي كاظم جودة - رحمة الله -، وذلك عندما كنت رئيسًا لتحرير مجلة (فنون)، في نهاية السبعينيات، فقد كان هذا الرجل مدرسةً صامتةً، وعطاءً بغير حدود فيما بين الحرف والكلمة، وقد شعرت بعشقة لتدقيق المقالات، رغم عذابات قراءة خطوط الصحفيين الضعيفة، وشخابيط وألوان مصححي المقالات، ورغم ركاكة أسلوبهم وسقطاتهم اللغوية الجمة في النحو والإملاء. ورغم ذلك كان مستمتعًا بعمله وعاشقًا لعذاباته.
كان يشكو لي ما يُعانيه من هوس متابعة ما يراه في الحياة، فقد التبس الأمر عليه - كما يقول -؛ حيث التدقيق في كل الأشياء الصغيرة والكبيرة: في أسعار الخضروات، ولافتات المطاعم والمقاهي، والأبواب والشبابيك، وأثاث البيت وترتيبه، والتدقيق في شؤون البيت والأطفال!
في أيام العز الخوالي، أيام غرام اللغة والفطرة النقية، كان (المدقق اللغوي) في الإعلام حريصًا على اللغة؛ لأن الرقابة كانت صارمة ومسؤولية ، وتتوزع على كلّ مفاصل العمل الصحفي والإذاعي، من مراقبة وتدقيق نصوص التقارير والبرامج المسجلة، إلى مراقبة الإلقاء على الهواء.
إقرأ أيضاً: سيرتي في الصحراء
وفي التدقيق كوارث ومصائب تصل إلى حد السجن والفصل من المؤسسة الإعلامية؛ بسبب أخطاء بسيطة في الحرف والنقطة، وتشكيل الكلمة وبنيتها، حيث تغيير المعنى إلى معنى آخر مناقض، يمثل خطرًا في التأويل، خاصة في أخبار الرؤساء؛ مثل أن يُقال: الرئيس فلان يُعرّي أخاه الرئيس فلان، بدلاً من يعزي! والفارق هو النقطة - ليس أكثر -، أو (استقبل الملك ضيوفه في قصره العاهر، بدلاً من العامر!).
المشكلة الأكبر: هي أن الخطأ اللغوي في المسموع والمرئي يطير وينتشر عبر الأثير، وقد لا يشعر به أحد، وذلك عكس حروف ورق الصحافة المطبوعة؛ فهناك اختلاف بين وسائل الإعلام في مجال التصحيح اللغوي والاعتماد على المدقق اللغوي، لكن الأخطر هو ما تحمله الأجيال الشابة القادمة إلى عالم الإعلام من حصيلة لغوية ركيكة، تجد لها الملاذَ الآمن في الإنترنت بعيدًا عن الرقابة اللغوية، وكذلك في التلفاز، حيث تكون لغة المذيع مُتسترة خلف الصورة تارة، واستخدام العامية تارة أخرى؛ أما ضَحالة لغة الإعلامي (المزعوم) من أمثال هؤلاء، فإنها لا تنكشف إلّا في الصحافة (المكتوبة).
إقرأ أيضاً: صارت فلسطين قصة طائفيّة
صحيحٌ أن الأدب العربي الحديث كان أكثر فصاحة وصحة، وأقل رداءة وغرابة أيام روَّاده، من أمثال: طه حسين، والمنفلوطي، والعقاد، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ؛ لكنه، مع ذلك، لم تسلم الكثير من مقالات كبار الكتاب ومؤلفاتهم من الأخطاء والهفوات والشوائب اللغوية، وهنا أتحدث عن أمهات الكتب، ومنها دواوين كبار الشعراء. كذلك انسحب الأمر على كبار كتاب الصحف في مجال كتابة المقالات والأعمدة الصحفية.
كلُّنا نُخطئ، هنا وهناك، في اللغة، وأنا منهم؛ لأننا أحيانًا لا نُدرك خطأنا، لأن وعيَنا مُنصبٌّ على المعنى -أولاً وأخيرًا-، وهذا هو سر كثيرٍ من الكتاب الكبار الذين يُمرِّرون ما يكتبونه على زملائهم ممن يثقون بهم لغويًّا، لا لأنهم يفعلون ذلك لضعفهم اللغوي، وإنما للحرص على الدقة والكمال!
إقرأ أيضاً: احذروا خداع الثعلب "الإسرائيلي"
خاتمة القول: إن النص السردي، الصحفي والأدبي، ينبغي أن يكون خليطًا من التنسيق الجمالي و(اللغوي)، ومن صورٍ جميلة المعنى والوضوح، ذلك لأن المعنى واللغة خطٌّ مستقيم -لا عِوَجَ فيه-. فلا علوّ لكعب المعنى على اللغة، ولا للغة على المعنى؛ فهما صنوان في عالم الكتابة، يكمل أحدهما الآخر، وينقص أحدهما بغياب الآخر، وهذا لا يستقيم إلا بوجود (شرطي اللغة) الذي يحرس اللغة ويضبط إيقاعها في نحوها وإملائها حتى مرحلة طبعها.
اليوم، بدأنا نشهد ضعفًا في عربيتنا الجميلة؛ فالبلاغة ماعت، والفصاحة ضاعت، والبيان أصبح في (خبر كان)، وها هو المرفوع قد نُصِب، والمنصوب قد رُفِع... وهلمَّ جرَّا! صارت عربيتنا مُهانة، أصابها الضعف والخور؛ بل إننا الآن نشهد (مواقف وطرائف) مضحكة عندما، نسمع اللغة من أفواه الإعلاميين؛ مثل أختنا المذيعة التي ضربت اللغة العربية بصواريخ بالستية عابرة للقارات، فقرأت صواريخ (جَو-جَو)، صواريخ (جُوجُو)! واندهشنا من خلال أخينا المذيع، عندما قال: إن (الحليب) زار لبنان، وتبين لنا بعد ذلك بأن فيليب (حبيب) هو المبعوث الأميركي المقصود، وليس حليب الحمار الأميركي!
التعليقات