حارت الأفهام في تَبَيُّن طباع المصري والقطع في أمره بقول فصل، فمن شُعوبي مُغالٍ فخور يزعم أن المصري أفضل وأعظم وأنبل من مشى على الأرض! ومن شُعوبي آخر شانئ مبغض يرد على الشُّعوبي الأول بأن المصري كذا وكذا حتى يجعله أسوأ من قذفت به الأرحام إلى الأرض! ولكنى وجدت تفصيل طبائع المصريين وتبيان خصالهم على نحو هو أقرب للصدق من كلا الرأيين في قصيدة "عم بطاطا" للشاعر الصعيدى المصري جمال بخيت، فهو فيها يخبرك بطبائع المصري، وينبئك بخصاله الكامنة، وبأخلاقه الموروثة، ويكشف لك عن ذات نفسه، وخبيء صدره، وإن كان لنا عليها بعض استدراك يُذكر في محله، وأول ما ابتدأ به الشاعر "بخيت" القصيدة هو التعريف بالرجل:

*عم بطاطا لذيذ وِمْعَسِّل*

فالخصلة الأولى من خصال "عم بطاطا" أنه خفيف الروح مستطاب العِشرة كمثل هذه البطاطا المشوية في حلاوتها وسهولتها وطِيب مجلسها في ليلة شتوية باردة بين جماعة من الأهل والصحاب، أو كمثل لذاذتها إذ يتحفك بها صديقك بينما تسيران ذات مساء على شاطئ النيل، وبائعو البطاطا في مصر ينادون عليها "يَا مْعَسِّلَة يا بطاطا" لحلاوتها أو لعسلها الذى يقطر منها إذا شُوِيت، وهكذا كان شأن "عم بطاطا" عند الناس، فهو يُؤلَف ويُؤتنَس به، وتستطاب مجالسته، وهو لذيذ الظَّرف، خفيف الروح، لبق المحادثة، لطيف البادرة، حاضر الدعابة، فمجلسه عند جلسائه وخلطائه لا يُمل ولا يُستثقل ولا يُستوحش، فمن أجل ذلك دعاه الشاعر "عم بطاطا".

والخصلة الثانية من خصال "عم بطاطا" أنه متدين، يقول الشاعر:

*عمره ما طاطا لغير الله*

وفي هذه الجملة تفصيل واستدراك، فالمقطوع به أن "عم بطاطا" متدين وإن كان على تفاوت في درجة هذا التدين، وعلى اختلاف في صفة الإله الذي "طاطا له عم بطاطا" ما بين زمن وزمن، أما ما فيه نظر واستدراك فهو أسلوب القصر البلاغى في: "عمره ما طاطا لغير الله"، فمن المعلوم بالضرورة من تاريخ "عم بطاطا" أنه يأخذ بالمثل القائل: "طاطى لها تعدى"، وتلك هى الخصلة الثالثة من خصال الرجل: فإن "عم بطاطا" كما "طأطأ" كثيرًا لله، فكثيرًا ما اضطرته الدنيا "للطأطأة" لفرعون في القصر، أو لمدير في المكتب، أو لبلطجي في الحارة، أو لآخرين من دونهم، حتى إنه من تطبعه بهذا الطبع ضرب الأمثال في فضله فقال: "طاطى لها تعدى" والبيت كما رأيت فيه من المبالغة ومناقضة الحق، لكن يُتجاوز عن المبالغة في الشعر، ويُتجاوز لقائله عما لا يُتجاوز عنه من غيره، ثم إنَّ الشاعر قد تداركها بالتوضيح والتصحيح فيما أتى من أبيات، ثم إنك إن نظرت إلى "طأطأة المضطر" هذه تجدها قد حفظت لنا "عم بطاطا" وإرثه و"مَصَّرَت" كل من دخل عليه، وألبسته ثوبه، وطبعته بطبعه، فهذه "الطأطأة" في وقتها تكون مذمة لصاحبها إن هو اختارها راضيًا غير مضطر، ولكنها تكون في حق الأمة حيلة تحفظ بها آدابها وخصائلها وحرثها ونسلها من الضياع والانقراض، "فالطأطأة" وإن بدت لك في ظاهرها خضوعًا واستسلامًا إلا أن في باطنها مكيدة احتال بها "عم بطاطا" على الغريب والأجنبى حتى "مَصَّرُه تمصيرًا"!

والخصلة الرابعة أن "عم بطاطا" مستسلم لحكم القدر فيه، يقول الشاعر:

*لما الدنيا بتقسى يمَثِّل*

*إنه خلاص سَلِّم لقضاه*

*قال إيه سَلِّم لقضاه*

فمن صفات "عم بطاطا" أنه إذا ثقلت عليه الدنيا، ولقي ما لا طاقة له بدفعه انقاد واستسلم لقضاء الله فيه، وليس هذا "تمثيلًا" كما زعم الشاعر، ولكنه إنسان يمسه ما يمس الناس من الضعف والعجز وقلة الحيلة، وعنده من تقدير العواقب ما لا يستطيع تحمله هو وعياله، فتراه (مُسَلِّمًا) لما يكون، ولطالما استعمل "عم بطاطا" هذا الخُلُق على مر الدهور والدول حتى صار طبعًا من طبائعه لا يخرج عنه إلا قليلًا في فترات (الاضمحلال أو الهوجة أو الثورة) ثم لا يلبث أن يتلبس به بقية دهره، فربما كان "عم بطاطا" يريد أن ينكر المُنكر، أو يعتزل الأذى، أو أن يصلح من الأمر ولكنه لا يأنس من نفسه القدرة على ذلك، فلا يسعه إلا الصبر عسى الزمان أن يميط عنه الأذى والمؤذى جميعًا.

أما خامس خصال "عم بطاطا" وسادسها فإنه فَطِن متغافل، وابن نكتة، يقول الشاعر:

*عم بطاطا يقول الراوى*

*خبَّا الحكمة في توب الحاوى*

*ينفخ ناره عشان إفطاره*

*وبنكتته بيداوى بلاوى*

فليس هو بالمغفل ولا الغِرِّ، وربما خُدِع بعض الناس بتغافله فظنوه من الغافلين المغفلين، لكنه ليس كذلك، بل هو يجعل التغافل والتحامق حجابًا يخفى دونه حكمته وفطنته؛ وذلك لحاجة في نفسه لا تقضى إلا بإظهار الغفلة والحمق، فهو يتوارى بما عنده من الحكمة والبصر بالأمور ولا يلقيها جهرة وعلانية، إنما يبدى نفسه لكبار القوم في صورة (الحاوى) وهو رجل سيرك الشارع الذى يلعب بالحيات وينفث النار من فمه على قروش قليلة يجمعها لإفطاره، فإذا خلا إلى بعض خلصائه وأصفيائه وأهل سره في مجلسه الخاص أبدى الفطنة وأرسل الحكمة تجرى على لسانه، فإن خشى على نفسه أو رزقه ترك العلانية ورجع فألقى حكمته مستترة في "نُكتة أو مُزحة" يُسِرُّها حينًا ويُورى بها حينًا ليرفه عن نفسه وعَمَّن حوله من غير أن يناله بطش كبار القوم، وكل من عرف مصريًّا يشهد له أنه "ابن نكتة"، "فالنكتة" من ألزم خصاله، وبعض هذا المزح يكون للتفكه وترويح النفس، لكن "عم بطاطا" ربما جعل هذا الضحك سخرية من كبراء القوم فينقلب حينئذ الضحك سلاحًا خفيًّا طالما استعمله "عم بطاطا" لإظهار ازدرائه حاكمًا لا يُحسن إقامة شؤون دولته فيصوره في بعض الرسم الفرعونى حمارًا يقود زورقًا! أو يجعل الاستهزاء والسخرية سوطًا يجلد به ظهر شيخ بلد غشوم يؤذى العباد، أو يجعله عًصًا يقرع بها رأس أمير يتسلط على رقاب القوم، فإذا قيلت "النكتة" وضج القائل والسامع بالضحك صغر في نفوسهم هذا الظالم، وشفيت صدورهم وذهب عنهم بعض غيظهم وكمدهم، ووجدوا في ضحكهم واستهزائهم أنهم قد انتصروا لأنفسهم.

والخصلة السادسة من خصال "عم بطاطا" هى المشى جنب الحيط، يقول "جمال بخيت" في تكملة القصيدة:

*عم بطاطا بيمشى في حاله*

*علشان رزقه ورزق عياله*

*غصبٍ عنه يقف يتكتف*

*بس بكيفه يفك حباله*

فإنَّ "عم بطاطا" كثير التغافل عما يسوؤه ويُنكره ويتأذى به؛ من أجل رزقه ورزق عياله، فهو من أجل لقمة عيشه يرضى بالقيد والغُل لئلا تنقطع هذه اللقمة عن فمه وفم عياله، ثم جبر الشاعر خاطر "عم بطاطا" بقوله "بس بكيفه يفك حباله"، وهل لو كان للمسكين "كيف" أكان يُشَدُّ وثاقه؟! لكن نقول ما قلناه في سابقه من أن الشعر لا يوزن بميزان الحجة والبرهان، بل يُتَجَوَّز فيه ما لا يُتَجَوَّز في غيره.

والخصلة السابعة من خصال "عم بطاطا" أنه سريع النجدة سريع الإجابة في المُلِمَّات:

*عم بطاطا يِزُكّ الزَّكَّة*

*يعبر سينا ويفتح عكا*

و"الزَّكّ" في العامية المصرية هى صفة من كان يغمز برجله في مشيه، أو من كان بِرِجْلِه بعض عرج، فالشاعر "بخيت" يمتدح "عم بطاطا" أنه على ثقل وطأة الدنيا عليه إلا أنه إذا سمع استغاثة لَبَّى وأغاث، وإذا هو انتُدب إلى مُلِمَّة أو أمر مضى فيه حتى يبلغ منتهاه، وهذا من الحق، فإن "عم بطاطا" إذا انتُدب لسيناء شق البحر ووثب بعرجته فإذا هو على الضفة الأخرى يمزق العدو كل ممزق، وهو إن رميت به أبواب عكا فتحها وفتح ما قبلها ثم مضى إلى ما بعدها لا يرده شىء، وفى التاريخ على ذلك شهود وأمثال.

ثم يختم "عم بخيت" بالخصلة الثامنة من خصال "عم بطاطا" أنه *صبور* على جار السوء:

*وبيصبر عَ الجار السَّوّ*

*خمسين سنة ويقول دول فكة*

وهذا خُلُق في معدن المصريين، فمن أمثالنا: "اصبر على جار السَّوّ، يا يرحل يا تيجى مصيبة تاخده"، وهذا يرجع بنا إلى الخصال الأولى "لعم بطاطا" وأنه إذا لم يقدر على تغيير الحال لنفسه أو لغيره استعان بالاستكانة وطول الصبر، و"جار السَّوّ" هنا ربما كان جارًا في الحى، أو زميلًا في عمل، أو رفيق سفر، أو حاكمًا غشومًا، أو كيانًا على الجانب الآخر من الحدود، فكل هؤلاء من "جيران السَّوّ" الذين لا يضن عليهم "عم بطاطا" بالصبر الجميل، وإنَّ تطاول العهد على مصر وقدم سبقها في هذه الدنيا قد جعلت "عم بطاطا" لا يعد الزمن بالشهور والسنين وإن بدت طويلة ثقيلة، بل يعدها بالقرون المتطاولة والحِقَب الممتدة، فمن أجل ذلك تراه لا يبالى بالصبر على "جار السَّوِّ" خمسين سنة ولا يعدها شيئًا مذكورًا في جنب عمره المديد الذى طوى "جيران سَوٍّ" كثيرين فمضوا وبقى "عم بطاطا".

وقبل أن يُزرى أحد أو يعيب "عم بطاطا" بصفاتِه تلك، فلتجعل نفسك مكانه، فترى عيشك معلقًا بالنهر وبسيد النهر ولا علم لك بالعيش فيما وراء النهر، فلا أنت تُحسن عيش البوادى، ولا أنت تقدر على سُكنى الجبال، فهل كنت حينئذ ستكون غير "عم بطاطا"؟! ويعجبنى ما قاله الفريق شفيق إبان سَوْرَة ثورة يناير من أن المصريين شعب نهرى ليس بصاحب ثورات بل صاحب استقرار، وقد نظرت كثيرًا في كلامه فرأيته موافقًا لكثير مما نعلم من تاريخ المصريين وطبائعهم، فأنت ترى أن الطبع النهرى قد صبغ "عم بطاطا" بصفات كلها متصلة آخذة برقاب بعض، فجمال الروح وخفة الظل وإخفاء الحكمة هى ضرورة لمن كانت خصاله امشى جنب الحيط، وطاطى لها تعدى، واصبر على جار السَّوّ... إلخ، وكلها خصال من ضرورات "الحياة النهرية"، فاجتمعت هذه الخصال جميعًا فصنعن طبائع "عم بطاطا" التي فصَّلنا القول فيها.

ولئلا تحار في شأن "عم بطاطا" أهو جَوَادٌ فاتح أم حاوٍ لاعب؟! فإن الحكم الفصل فيه يرجع إلى من يتولى "الأريكة المصرية"، فإن كان جادًّا مُشمِّرًا للمعالى فأَكْرَمَ شعبه وهيَّأه وأَعَدَّه فسيجد بين يديه جَوادًا شديد البأس "يعبر سينا ويفتح عكا"، وأما إن ابْتُلِىَ "عم بطاطا" بخامل الهمة، فاتر العزم فلن تجده إلا "فرس موالد" يرقص في الطرقات "علشان رزقه ورزق وعياله".