من حارس ملهى ليلي في بوينس آيرس إلى الحبر الأعظم على كرسي القديس بطرس، رسم البابا فرنسيس مسارًا استثنائيًا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، جمع فيه بين التواضع والإصلاح، وبين الانفتاح على العالم والتمسك بجوهر العقيدة. من هو الرجل الذي أراد كنيسة للفقراء، وأصبح صوتًا أخلاقيًا في عالم يمزقه الانقسام؟

إيلاف من لندن: أعلن الكاردينال كيفن فاريل، رئيس دائرة العلمانيين والعائلة والحياة في الفاتيكان، وفاة البابا فرنسيس يوم الاثنين، مشيدًا بمسيرته البابوية ومثالياته الروحية.

وقال فاريل في بيان الوداع:

"لقد كرس حياته كلها لخدمة الرب وكنيسته. لقد علّمنا أن نعيش قيم الإنجيل بأمانة وشجاعة ومحبة شاملة، خاصة للأكثر فقرًا وتهميشًا. بامتنان كبير لمثاله كتلميذ حقيقي للرب يسوع، نودع روح البابا فرنسيس إلى محبة الله الواحد الأحد والرحيم اللامتناهية والرحيمة، ونودع روح البابا فرنسيس إلى محبة الله الواحد الأحد والرحيم".

إصلاحات غير مسبوقة
شهدت حبرية البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، عدداً من القضايا غير المسبوقة، وسط سعيه المستمر لإصلاح المؤسسة الكنسية من الداخل، مع المحافظة على الثقة بين القاعدة المحافظة من المؤمنين.

جاء فرنسيس كأول بابا من الأميركتين ومن نصف الكرة الجنوبي، في سابقة لم تتكرر منذ عهد البابا غريغوريوس الثالث، ذي الأصول السورية، عام 741 ميلادي. كما كان أول بابا ينتمي إلى الرهبنة اليسوعية، التي طالما نظرت إليها روما بعين التحفظ.

وفي وقت لم تعتده الكنيسة منذ قرون، تنحى سلفه بنديكتوس السادس عشر طوعًا عن المنصب، في مشهد نادر تواصل خلاله حضور "بابوين" في أروقة الفاتيكان لنحو عقد من الزمن.

ترشيح توافقي
بلغ الكاردينال خورخي ماريو بيرغوليو، الآتي من الأرجنتين، العقد السابع من عمره عند انتخابه في عام 2013. ورغم التوقعات بأن يخلف بنديكتوس شخصية أكثر شبابًا، فقد جاء بيرغوليو بوصفه مرشحًا توافقيًا، جمع بين ثوابت المحافظين في القضايا الجنسية، ورؤية منفتحة للعدالة الاجتماعية استقطبت التيارات الإصلاحية.

وقد أُنيطت به آمال عريضة لإضفاء طابع جديد على الفاتيكان من خلال خلفيته المتواضعة غير التقليدية، إلا أن هذه التوجهات واجهت مقاومة قوية من البيروقراطية الداخلية، فيما احتفظ سلفه بشعبيته بين المحافظين حتى وفاته عام 2022.

بداية مختلفة
منذ لحظة وصوله إلى الكرسي الرسولي، أظهر البابا فرنسيس تصميمًا على التميز بأسلوبه. فخلال لقائه الأول بالكرادلة، تخلّى عن الكرسي البابوي واستقبلهم واقفًا بين الحضور. وفي 13 مارس/آذار 2013، أطل على العالم من شرفة ساحة القديس بطرس بلباس أبيض بسيط، وقد اختار اسم "فرنسيس" تيمنًا بالقديس الأسيزي، رمز التواضع وخدمة الفقراء.

تخلى البابا الجديد عن عربات الليموزين، وشارك الكرادلة التنقل بالحافلات، وصرّح أمام مؤمنيه: "آه، كم أود أن تكون الكنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء".

سيرة شخصية استثنائية
وُلد بيرغوليو في بوينس آيرس في 17 كانون الأول (ديسمبر) 1936، وهو الابن الأكبر لأسرة من خمسة أبناء فرّت من إيطاليا هربًا من الفاشية. في شبابه، عُرف بولعه برقص التانغو وتشجيعه لنادي سان لورينزو. وأصيب بالتهاب رئوي حاد كاد أن يودي بحياته، أُجريت له على إثره جراحة لاستئصال جزء من رئته.

عانى لاحقًا من آلام مزمنة في ركبته، واصفًا إياها بـ"إماتة الجسد". عمل في شبابه حارسًا لملهى ليلي وعامل نظافة، ثم درس الكيمياء. كما عمل في مصنع إلى جانب الناشطة الحقوقية إستير باليسترينو، التي اعتُقلت لاحقًا وتعرّضت للتعذيب واختفت جثتها.

مسار كهنوتي متدرج
التحق بيرغوليو بالرهبنة اليسوعية، ودرس الفلسفة، ثم درّس الأدب وعلم النفس. وبعد عشر سنوات من سيامته كاهنًا، أصبح رئيسًا إقليميًا للرهبنة في الأرجنتين عام 1973.

لكن علاقته بالمجلس العسكري الذي حكم البلاد في السبعينيات لم تخلُ من الجدل. فقد اتُهم بعدم حماية كافية لقسّين اختُطفا وتعرضا للتعذيب، رغم أنهما نُقلا لاحقًا إلى برّ الأمان. دافع بيرغوليو عن موقفه مشيرًا إلى الجهود التي بذلها في الخفاء لإنقاذهما.

لم يكن محل إجماع داخل الرهبنة، إذ اتُّهم بتجاهل "لاهوت التحرير"، بينما تمسك بأسلوب رعوي أكثر تحفظًا.

تواضع في الممارسة
رُسم أسقفًا مساعدًا لبوينس آيرس عام 1992، ورئيسًا للأساقفة لاحقًا. وفي عام 2001، عيّنه البابا يوحنا بولس الثاني كاردينالًا. وعلى الرغم من مناصبه، حافظ على بساطته في الملبس والتنقل، مسافرًا غالبًا في الدرجة الاقتصادية، ومحتفظًا بثوب الكهنوت الأسود.

ركز في عظاته على العدالة الاجتماعية، مشددًا على أن النمو الاقتصادي لم يحقق تقليصًا للبؤس، وانتقد تهاون الحكومات تجاه الفقراء.

حوار بين الأديان وانفتاح مشروط
كان فرنسيس أول بابا يحضر مراسم تنصيب بطريرك القسطنطينية منذ الانقسام الكبير عام 1054. تعاون مع الأنجليكان والبروتستانت، ودعا إلى صلاة جمعت قادة إسرائيل وفلسطين.

رفض وصم الإسلام بالعنف، وقال في واحدة من خطبه: "إذا كنت سأتحدث عن العنف الإسلامي، فلابد أن أتحدث أيضًا عن العنف الكاثوليكي".

كما دعم حق الأرجنتين في جزر فوكلاند، ولعب دورًا دبلوماسيًا بارزًا في التقارب بين الولايات المتحدة وكوبا.

محافظ في المبدأ
تمسك البابا فرنسيس بالتقاليد في مسائل الإجهاض، والقتل الرحيم، والكهنوت المتبتل، وأكد استحالة سيامة النساء، رافضًا اعتبار زواج المثليين مصطلحًا مقبولًا كنسيًا، مع تأييده الاعتراف ببعض الحقوق المدنية لهم.

كما دافع عن حقوق الأجنّة، ودعا الأطباء في إيرلندا للتحرك وفق ضمائرهم خلال استفتاء حول الإجهاض.

تحديات الفضائح
واجهت حبريته انتقادات على خلفية طريقة تعامله مع قضايا الاعتداء الجنسي في الكنيسة. وفي 2018، فجّر رئيس الأساقفة كارلو فيغانو أزمة كبرى باتهامه للبابا بالتستر على سلوكيات الكاردينال مكاريك. ورغم تلك الاتهامات، استمر فرنسيس في الدفاع عن شفافية الكنيسة، إلى أن جُرّد مكاريك لاحقًا من الكهنوت عام 2019.

قيادة في زمن الجائحة
خلال تفشي كوفيد-19، عُلّقت لقاءاته العامة حفاظًا على الصحة العامة، ودعا البابا إلى اعتبار اللقاح "واجبًا أخلاقيًا عالميًا".

وفي عام 2022، ترأس بنفسه مراسم جنازة سلفه بنديكتوس السادس عشر، في حدث لم تشهده الكنيسة منذ أكثر من مئة عام.

إرث عالمي
واصل البابا فرنسيس عمله رغم تدهور حالته الصحية، وزار جنوب السودان عام 2023، ودعا إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، رغم انتقادات لتصريحاته التي اعتُبرت مائلة للحياد.

أطلق لاحقًا جولة شملت أربع دول، وعُرف بتركيزه على تقوية الطابع العالمي للكنيسة، بتعيينه أكثر من 140 كاردينالًا من خارج أوروبا.
وقد ظل متمسكًا بالبساطة، رافضًا الإقامة في القصر الرسولي، ومفضلًا دار الضيافة الحديثة التي أنشأها البابا يوحنا بولس الثاني.
قال في أحد تصريحاته: "أنظر إلى الطاووس، يبدو جميلاً من الأمام، لكن إذا نظرت إليه من الخلف، ستدرك الحقيقة".

"كنيسة جريحة... لا منغلقة"
آمن البابا فرنسيس أن إصلاح الكنيسة يبدأ من الداخل، ومن قلب رسالتها للفقراء. وفي كلمات تختصر نظرته، قال:

"علينا أن نحذر من مرض روحي يصيب الكنيسة عندما تنغلق على ذاتها. لو كان عليّ أن أختار بين كنيسة جريحة تخرج إلى العالم، وكنيسة مريضة منغلقة على ذاتها، لاخترت الأولى".