منذ سنوات طويلة يحاول الغرب ومعه العديد من المفكرين السياسيين والقوى والمنظمات نقل التجارب السياسية الأوروبية والأميركية إلى دول الشرق الأوسط، حيث ارتكز منذ البداية على ثلاث دول هي تركيا وإسرائيل ولبنان التي كانت الأكثر قرباً إلى تلك الطموحات، وبالرغم من الجهود المضنية والخسائر الكبيرة، إلا أنّ هذه التجربة اصطدمت بإرثٍ هائل من تراكمات قبلية ودينية ومذهبية جعلتها، لتسقط بعد سنوات ليست طويلة في حقل الفشل الذريع، حيث تمزّق لبنان بين القبائل والطوائف، بينما غرقت تركيا في عنصرية تسببت بمقتل وتهجير ملايين الأرمن والكورد على خلفية مطالبتهم بأبسط حقوقهم الإنسانية والديمقراطية، وفي إسرائيل التي بشّرَ الكثير من مفكريها وسياسيي الغرب بأنها ستكون نموذج الديمقراطية في الشرق الأوسط، فإذا بها تتحول إلى دولة دينية عنصرية في تعاملها مع سكانها من غير اليهود.
إقرأ أيضاً: صناعة الأصنام البشرية
وبالرغم من فشل التجارب الثلاث، إلا أن مصالح القوى العظمى تطلبت تغيير هياكل النظم الشمولية في بعض دول الشرق الأوسط مستغلةً العِداء الشعبي لتلك الأنظمة ودعمها بشكل كبيرٍ كما حصل في كلّ من إيران والعراق وليبيا واليمن وسوريا، حيث تدخلت بشكل مباشر لتغيير تلك الأنظمة أو تدجينها، ومن ثم الانتقال إلى استنساخ تجاربها الديمقراطية في مجتمعات لا تتقبل بسهولة هذا النمط من الحياة، لأسبابٍ تتعلق بالوعي والثقافة والمعرفة والقيم الاجتماعية والدينية وطبيعة تكوينها، وما يلحق بها من عادات وتقاليد وأعراف، وقد نجحت نسبياً في تأسيس برلمانات على الطريقة الغربية وإجراء انتخابات كوسيلة سلمية لتداول السلطة، إلا أنها تفاجأت باستنساخ النمط الاجتماعي المحلي وأدواته في إيصال تلك المجموعات إلى مراكز القرار، حيث غدت تلك البرلمانات مجالس للقبائل والمذاهب والمال السياسي الداخلي منه والخارجي، بعيداً كل البعد عن الانتماء لمفهوم المواطنة في مجتمعات تعتمد في بنيتها على الرمز الفردي، ابتداءً من الأب ومروراً بشيخ العشيرة وإمام الجامع ومختار القرية والزعيم الأوحد المتجلي في رمز الأمة والمأخوذ من موروث مئات السنين أو آلافها بشخص عنترة بن شداد أو أبو زيد الهلالي أو الزعيم الأوحد أو ملك ملوك أفريقيا أو القائد الضرورة أو سلطان زمانه.
اليوم، بعد أن أزيلت هياكل تلك الأنظمة الشمولية، نكتشف أنَّ ما حصل خلال هذه السنوات المريرة هو إنتاج مؤسسات لا تختلف عما كانت عليه في الأنظمة السابقة إلا بلبوس محدث تحت عنوان النظام الديمقراطي الذي لا يمتلك مفاتيح سلطاته وأدواته إلا مجموعة مهيمنة ممن ذكرناهم، متعددة الانتماءات، ولا علاقة لها بالانتماء للمواطنة الجامعة، همها الوحيد الهيمنة على السلطة والمال لتمرير أجندات ولاءاتها التي تعتبر القبيلة والدين والمذهب ورموزها أهم ألف مرّة من الشعب والدولة، وخير مثال ما يجري في العراق وليبيا واليمن وسوريا، وهو ذاته كان يستخدم من قبل زعماء الدكتاتوريات وأحزابها، حيث يتمّ تجييش القبائل والعشائر والرموز الدينية والمذهبية، وبتمويل من الكتل والأحزاب، لإيصال مجموعة من الأصنام إلى قبة البرلمان مقابل امتيازات مالية، وهذا ما حصل فعلاً منذ 2005 ولحد آخر انتخابات في العراق.
إقرأ أيضاً: إشكالية المعارضة في الشرق الأوسط
من هنا، نستنتج أنّ أيّ تغيير خارج التطور التاريخي للمجتمعات بأي وسيلةٍ كانت، سواءً بالثورات أو الانقلابات أو التغيير الفوقي من قبل قوى خارجية، لن تعطي نتائج إيجابية بالمطلق، بل ستنعكس سلباً بشكل ربما يؤدي إلى مردودات كارثية على مصالح البلاد العليا على مستوى المجتمع أو الفرد ولسنوات طويلة جداً، وهذا ما حصل ويحصل اليوم في العراق وليبيا واليمن وسوريا، حيث يتمّ فرض مجموعة من الصيغ والتجارب الغربية في بناء نظام سياسي واجتماعي بعيد كل البعد عن طبيعة تلك المجتمعات ووضعها الحالي، وخاصةً ما يتعلق بالنظام الاجتماعي والتربوي والقيمي لمجتمعات هذه الدول، ولعلَّ الأهم هو أنَّ صيغة الديمقراطية الغربية في مجتمعات بدائية في وعيها وثقافتها وانتماءاتها لن تكون الحل أو العلاج لمشاكل هذه الدول ومجتمعاتها التي تختلف كلياً عن المجتمعات الغربية في الموروثات الاجتماعية والدينية ومنظومة العادات والتقاليد التي تتقاطع في مفاصل كثيرة مع الصيغ الأوروبية لتطبيقات الديمقراطية.
إقرأ أيضاً: العشوائيات الديمقراطية
لعبة جر الحبل الديمقراطي بين الغرب وهذه الدول فشلت فشلاً ذريعاً، وانتصر فيها الطرف الشمولي بتكيفه مع الوضع الجديد والعمل من خلاله لإعادة تدوير الدكتاتورية بلبوسٍ منمق، حيث تم شطر الدكتاتور إلى عشرات الزعامات التي تقلده وتتجاوزه في كثير من سلوكياته، ونظرة سريعة إلى طبيعة الأنظمة في غالبية دول الشرق الأوسط تؤكد أنَّ الحبل قد انقطع لصالح تلك القوى الشمولية.
إنَّ الديمقراطيَّة ليست صناديق انتخابات لتسلق سلالم السلطة، بل هي سلوك وممارسات وأخلاقيات قبول الآخر المختلف تحت خيمة وطن جامع وأمة موحدة تبدأ حروفها الأولى من الأسرة والمدرسة وصولاً إلى الجامعة والفعاليات السياسية والاجتماعية والإدارية، وهذه تحتاج إلى فعل جدي جذري في الثقافة والتربية والعلوم والمعرفة أكثر من حاجتها إلى برلمانات معاقة ومؤسسات منخورة بالفساد تحت خيمة ديمقراطيات معلبة فسِدت موادها الحافظة!
التعليقات