بانتهاء الشهر الخامس وانتصاف السادس من الحربِ على غزَّة وحالُ القطاعٍ وأهله لا يروق لأحدٍ، وكل يومٍ يمر يُصبح الوضعُ أسوأ من سابقه؛ فالأحوالُ الإنسانيَّة البائسة وصلت إلى منحنى غير مسبوقٍ في تاريخ القضيَّة التي تعود إلى نحو قرنٍ إلَّا ربع من الزمان، ولا أُخفيكم سرًا أنَّ المُؤشرات تُشير إلى استمرار الوضع على ما هو عليه الآن لأسابيع قادمة وربَّما لشهورٍ، وذلك بسبب التعنُّت الإسرائيلي – الحمساوي، والمُغالاة في الشُّروطِ التي يضعها كلٌّ منهما على مائدة المفاوضاتِ التي تحتضنها مصر وفرنسا وقطر.
ومن خلال مُتابعتي للأحداثِ المتُعاقبة للقضيَّة وتطوراتها في الفترة الأخيرة، فإنني أشعر بالقلقِ البالغ أكثر من ذي قبل؛ خاصةً مع بروز الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني على الساحة من جديد، والعودة إلى تراشق الاتهامات بين الفصائلِ والقياداتِ في وقتٍ هم أحوج ما يكونون فيه لرأب أيِّ صدعٍ بينهم؛ لأنَّ تباين الآراء واختلاف وجهات النَّظر من شأنه تعطيل جهود التفاوض الساعية للوصولِ إلى هُدنةٍ ووقف إطلاق النار، وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه بعد الوضع المأساويِّ الذي يعيشه الشعب الأعزل هناك.
أرى أنه يلوح في الأفق اتفاقٌ عربيٌّ يحظى بشِبه إجماعٍ لم يخرج عنه بالطبع إلَّا حماس ومَنْ يسير في رِكابها؛ وهو ضرورة إسناد القطاع وتسليمه إلى السُّلطة الفلسطينيَّة، باعتبارها المُمثِّل الشَّرعي والوحيد للفلسطينيين والمُعترف بها دوليًا، وتنضم إلى هذا الطرحِ أميركا وكثيرٌ من دول العالم.
والعجيب هذه المرة اتفاق إسرائيل وحماس على ألَّا يتفقا على حلٍّ يتم بموجبه وقف إطلاق النار ولو بصورةٍ مؤقتةٍ؛ رحمةً بالضعفاءِ في غزَّة، ومراعاةً لحقوق المدنيين غير الآمنين، والمُروَّعين في ليلهم ونهارهم، تدهسهم الدبابات، وتقصفهم الطائرات، وتقنصهم البنادق وتفتك بهم الصواريخ ويكون مصيرهم إما تحت الركام أو فوقها، أشلاءً ومُصابين، مع رفض كلا الطرفين التوصُّل لحلٍّ للكارثة الأبشع في التاريخ، إضافةً لسِياقهما مُبررات ودوافع تختلف وتتناقض لدى طرفيها؛ فإسرائيل ترفض لأنها تستكثر الثمنَ الذي دفعته منذ أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، حيث ترى خسائرها الماديَّة والبشريَّة هي الأضخم في تاريخها، حتى أنها فاقت – حسب رِوايتها - ما تكبَّدته في حرب السادس من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973، أو جولاتها السابقة مع حزب الله.
أما حماس فتواصل التعنُّت والرفض؛ ظنًا منها بأنَّ الموافقة على التنازل على حكم القطاع من أجل التوصل لوقف إطلاق النار سيُمكِّن السُّلطة الفلسطينيَّة من الظَّفرِ بحُكم القطاعِ والقفزِ على ما تُسمِّيه مُكتسبات "السابع من أكتوبر"، ولا أعلم ما الذي يخشى قادتها ضياعه بعدما دُمِّر القطاعُ وتهدَّمت منازله ومُنشآته، وباتت أطلالًا تحتاج عشرات الملياراتِ من الدولارات كي تعود عامرةً صالحةً لسُكنى البشر، ناهيك عن الـ 110 آلاف فلسطيني الذين راحوا بين قتيلٍ ومُصابٍ دون بيان مَنْ ذا الذي يتحمَّل فاتورتهم ووِزْرَهم.
يقيني وما هو واضحٌ للكافة، أنَّ الحرب الدائرة رُحاها في قطاع غزَّة فرَّغته من غالبية قادة حماس، ومَنْ بقي منهم حيًا تفرَّق شمله بين عددٍ محدودٍ من دول المنطقة، أو سكن الأنفاق في أعماق الأرضِ وليس بمقدوره الخروج؛ لأن طائرات إسرائيل ستكون له بالمرصادِ، ولم نعد نرى من الحركة إلَّا المُلثَّم "أبو عبيدة"، الذي يطل علينا كلَّ فترةٍ، والمُتابع لأوقات ظهوره مؤخرًا يقطع يقينًا بأنها تباعدت، ويُستنتج من هذا أنَّ حركة حماس غير موجودةٍ سياسيًا على الأرضِ حاليًا، كما أنَّ نشاطها انحصر على منصات السوشيال ميديا، وهو ما لا يتسق مع تزمُّتِها وعِنادها وحَجم مَطالبِها.
من المؤكَّد أنه مهما طال أمد رفض حماس التخلِّي عن حُكم القطاع، نزولًا على رؤية الجامعة العربيَّة والدول الشقيقة لإنهاء الصِّراعِ، فإنه سيأتي وقتٌ لا محالة وتنسحب الحركة لصالح السُّلطة الفلسطينيَّة التي تعمل حاليًا على تغيير وجهها، من خلال التخلُّص من كلِّ الوزراء والمسؤولين والمحسوبين على تيارٍ بعينه، والإتيان بعناصر تكنوقراط أَكْفَاءٍ منزوعي الانتماء الحركي، حتى يُمكنهم تحمُّل المسؤوليَّة في هذا الوقت العصيب الذي يحتاج كلَّ جهدٍ لإعادة ترميم وإصلاح ما خلَّفته أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) من خرابٍ ودمار.
لقد حان الوقت لمُواجهة الواقع المُشاهد رأي العين، وإعمال لُغة العقلِ والمنطق وتنحية العواطف جانبًا، فلم تنتهِ إسرائيل أو يفر سُكَّانُها كما ردَّد صِبيةُ السياسة، بل ظلَّت قادرةً على مُهاجمة حماس وإبادة غزَّة وطمس ملامحها، وربَّما باستطاعتها فتح جبهات أخرى للقتالِ؛ فما تلقاه من دعمٍ لوجيستيٍّ أميركيِّ - أوروبيٍّ على مدار الساعة يُمكِّنها من فِعل ذلك باقتدارٍ، وقد وضح هذا جليًا في استفزازها لحزب الله؛ حتى تجرَّه للحربِ على مدار أشهرٍ قادمة، كما دفعته إليها قبل سنواتٍ مضت بدهاء، وهو ما يدحض فكرة توحيد الساحات التي يتشدَّق بها المتعاطفون والصبية ذاتهم.
ونظرة على الأحداثِ من زاويةٍ أخرى، يتضح لنا أن سورية التي كانت قبل 2012 من أهم الداعمين لحركة حماس ماليًا وسياسيًا، تحتضن قادتها، ويُقيم على أرضها غالبيةُ رموزها، لعلَّ أبرزهم كان خالد مشعل - رئيس المكتب السياسي للحركة في ذلك الوقت-، وقد قضوا هناك سنين ليست بالقليلة، قبل أن يخرجوا منها بعد اندلاع الثورة السوريَّة، ورفض حماس الوقوف إلى صف النِّظام بقيادة بشَّار الأسد، بل وانتقاده في بعض الأحيانِ على طريقة تعامله مع الاحتجاجات وقمْعها، ولاحقًا علَّق مشعل على ذلك بأنه آثر الخروجَ من دمشق بعد تردي الوضع الأمني، وحتى يتمكَّن من الاضطلاع بمسئولياته في قيادة الحركة، وإن كانت العلاقات قد تم استئنافها مؤخرًا بعد قطيعة دامت عقدًا من الزمن، ولكن دمشق لم تعد تملك ما تُقدِّمه في الوقت الحالي للقضيَّة الفلسطينيَّة والمقاومة هناك، خاصةً أن الأزمة الراهنة جاءت في وقتٍ تُعاني فيه الدولة وحكومتها تراكم الأزمات الداخليَّة، وتُحاول الإفلات من قانون قيصر الأميركي، الذي أقرَّه الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي قيَّدها وطوَّقها بعقوباتٍ اقتصاديَّةٍ قاسية أعاقت مسيرة التنمية فيها.
وأُغرِّد في منطقةٍ مُختلفةٍ عن الجميع، من خلال توقعي للمفاجأة الكبرى التي ستُمثِّل صدمةً سياسيةً شديدة التأثير - عندما تحدث - وهي اقتراب انضمام سورية إلى مشروع السَّلام مع إسرائيل، والذي سوف يكون ضمن اتفاقٍ كبير تحتاج دمشق المُنهكة حاليًا إلى بنوده التي قد تشمل - من وجهة نظري - رفع قانون قيصر الخانق لها ولنظامها، وسحب القوات الأجنبيَّة، وتقديم دعمٍ اقتصاديٍّ واستثماريٍّ يساعدها على العودة لسُلُّم التنمية الغائبة عنه منذ سنوات.
وإن بدا الأمر في ظاهره مستحيلًا بأن تُصبح إحدى القوى التي تربطها علاقات قويَّة بإيران من المُطبِّعين مع تل أبيب، لأن هذا سيفتح بابًا واسعًا للحربِ الكامنةِ في الغُرف المُغلقة بين الحليفين التقليديين سورية وإيران، ولكن في قابل الأيام ستكون المصالح كاشفةً لأمورٍ كثيرة ربما يُمهِّد لها الصمتُ السوريُّ تجاه ما يحدث بالمنطقة ويحدق بها حاليًا، فإقدام دمشق على هذا الأمر يكون بمثابة إنقاذٍ لوضعها المتأزِّم وبداية التهدئة في مُحيطها الملتهب.
وعكس ما يرى آخرون، فإنني أستبعد إمكانية امتداد تداعيات حرب غزَّة لدخول أميركا وإيران في مواجهةٍ مُباشرة؛ لأن الأخيرة نجحت في جعل نفسها رقمًا مهمًا في مُعادلةٍ عالميةٍ شديدة التعقيد، وذلك بتوثيق علاقاتها بروسيا والصين، اللتين تجمعهما معها مناورات عسكريَّة ومصالح مُشتركة، ومواقف أخرى تحمل الدلالات نفسها، ولن تتخلَّى موسكو وبكين عن طهران مهما حدث، وهو ما تُدركه واشنطن جيدًا وتعمل جاهدةً في اتجاه الحفاظ على نهجها الذي رَسمته خلال السنوات الماضية في التعامل مع إيران من خلال عملياتٍ نوعيةٍ تُنفِّذها إسرائيل لاستهداف قادة عسكريين إيرانيين، هذا إلى جانب رصد المُكالمات وتقوية الجبهات والجماعات المناوئة لإيران في بلوشستان، ناهيك عن سلاح العقوبات الذي تستخدمه بين الحين والآخر.
ولمَنْ لا يعرف، فإن هناك مفاوضات جارية بالفعل، منها ما هو مُعلن وما هو في طيِّ الكتمان، من أجل انفراجة للموقف المُعقَّد في المنطقة، وتُشارك أميركا بشكلٍ بنَّاء في هذه المُحادثات، وفي رأيي فإنها ستفضي إلى وجود تفاهمات أميركيَّة إيرانيَّة حول بعض القضايا الشائكة بالمنطقة، ومنها تداعيات البحر الأحمر، إلى جانب حث إيران لأذرعها فيها على عدم التعرُّض لإسرائيل مُقابل توقُّف استهداف ما يخص إيران في سورية والعراق، بمعنى تهدئة الأمور نوعًا ما، حتى تنتهي الانتخابات الأميركيَّة وبعدها نرى السيناريو الجديد لساكن البيت الأبيض المنتظر.
وأُود أن أُشير هنا إلى تحولاتٍ مهمَّة في مصير القضيَّة الفلسطينيَّة، لعل أبرزها إعلان بعض الدول وعلى رأسها أميركا وشركاؤها الأوروبيون، إمكانية الاعتراف من جانبٍ أُحاديٍّ بالدولة الفلسطينيَّة، والذي أعتبره نتيجةً حتميةً ومباشرةً للموقف السعودي القوي، خلال الأعوام الماضية، للضغط على أميركا للاعتراف بالدولة الفلسطينيَّة كشرطٍ لمشروع السَّلام الذي تنشده، بينما هناك مَنْ يُشيع المغالطات ويُروِّج الأكاذيب بأن الإعلان الأميركي هذا من ثمار ما حدث في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وهذا غير صحيح بالمرة، فلولا موقف المملكة القوي ما كان لأميركا أن تُعلن ذلك، وهو ما يُعبِّر عن ثقل الرياض ودورها المحوريّ كونها رُمانة الميزان في الإقليم.
وختامًا؛ إن أهمية هذا الاعتراف الذي لا يُساورني شكٌ في حدوثه، أنه سيكون الأوَّل من نوعه الذي يُصبغ بصبغةٍ دوليَّة، وتنفيذه مسألة وقت ليس إلَّا، أي أنه واقعٌ لا محالة، وإن رفضته إسرائيل اليوم أو غدًا، لكن موقفها الهزيل لن يصمد أمدًا طويلاً، لنجد أنفسنا اليوم أمام سؤالٍ يشغل أذهاننا جميعًا: أما آن لهذا الصراعِ أن ينتهي لنعيش في سلامٍ أبديٍّ؟
التعليقات