ضربة جديدة قاصمة تعرَّض لها التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، سعيًا إلى استئصال شأفته، وقصّ أذرعه، والقضاء على ذيوله وبقاياه التي لا تزال تعبث بأمن بعض الدول العربية واستقرارها، برغم تعريته هو وبقيَّة جماعات الإسلام السياسي التي تُشاركه في الأهداف والأجندات الخبيثة والمشبوهة نفسها، ابتداءً بمصر، ومرورًا بتونس وبلدان أخرى، وليس انتهاءً بدولة الكويت الشقيقة.

فقد ظلَّت الكويت - ردحًا من الزمن - تعاني وطأة توسُّع أنشطة ذلك التنظيم الإرهابي، الذي أخذ ينخر في مفاصلها، وأجهزتها السياسيَّة والاقتصاديَّة والإعلاميَّة، وتحوَّل أعضاؤه أبواقًا لجماعات التطرُّف والظلام في الخارج، يخدمون مصالحها الخفيَّة على أرض الكويت، ويُصدرون الفتاوى المؤيدة لها، ويجمعون الأموال التي تُعينها على تلويث عقول النشء، وتخريب المجتمعات وإفسادها، وتفكيك الدول وتهديد وحدتها وسلامة أراضيها، ولا سيما دولة الكويت نفسها التي عشَّش فيها ذلك التنظيم.

وطوال أعوام مضت تابعنا - بقلوب يعتصرها الألم – حال الشقيقة الكويت، التي تمدَّد التنظيم الإخواني والأدوات الإيرانية فيها، ورأينا الخطر الذي يتهدَّدها تزداد دائرته اتساعًا، حتى أصبح يعبر حدودها مهددًا الدول المجاورة لها، بل المنطقة قاطبةً؛ ولكنَّ ثقتنا بالقيادة الكويتية الحكيمة ظلت كبيرة ولم تفتر يومًا، وكنا - ولا نزال - على يقين أنها ستظل حجر عثرة في وجه أولئك المُخربين؛ تقطع دابرهم، وتتعقَّبهم في كل ركن من أركان الدولة، ولا سيما أنهم استغلوا الديمقراطيَّة، التي قطعت فيها الإمارة أشواطًا متقدمة، لا لهدف سوى تحقيق مآرب شيطانيَّة تُعينهم على الوصول إلى أهداف مسمومة تُعطّل مسيرة النهضة، وتُعيد الكويت إلى عصور الجهل والتخلف، تحقيقًا لمآرب قوًى إقليمية لديها أطماع لا تخفى على أحد في الدول الخليجية والعربية.

وكما عهِدناها دومًا؛ فإن القيادة الكويتيَّة - وعلى رأسها الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح - كانت على مستوى التحدي؛ إذ أصدرت، الشهر الماضي، قرارات تاريخيَّة دقَّت أول مسمار في نعش أولئك الطامعين والحاقدين على الكويت الحبيبة وشعبها الأبيّ، ووضعت الأمور في نصابها الصحيح، بعد أن وصل تمادي بعض الناعقين والمرتزقة إلى درجة لم يعُد ممكنًا غض الطرف عنهم أو تجاهلهم، ولا السكوت عن تهديداتهم التي أصبحت تطول أمن الكويت وسلامة أراضيها، في ظل مصاعب وتحديات واضحة للعيان.

وتضمَّنت تلك القرارات المهمة، التي وصفها بعضهم بأنها إصلاح جريء في وقت بالغ الحساسية، حلّ مجلس الأمَّة، وتعليق بعض بنود الدستور، وتشكيل لجنة لتنقيحه وتنقيته من "العوار" الذي أظهره التطبيق العمليّ لمواده، وكان سببًا فيما آلت إليه حال الكويت التي أصبحت على شفا اضطرابات لا تزال دول عربية عدَّة تعانيها، ولم تستطِع حتى يومنا هذا استعادة الأمن والاستقرار أو السيطرة على الوضع القائم فيها.

ولكنَّ التطوُّر الأبرز والأهم، الذي شهِده اليومان الماضيان، هو إعلان الداعية الكويتي حجاج العجمي - للمرة الثانية في سبعة أشهر - "ندمه على دعم الإرهاب"، وتراجعه عن الدرب التي سلكها منذ أعوام طويلة، وجَعْل نفسه "ورقة بيضاء" بيد الحكومة الكويتية؛ ما أحدث شرخًا عميقًا في بِنى جماعات الإسلام السياسي، لا يمكن تجاوز تداعياته سريعًا.

وكان العجمي قد أعلن - على الملأ - نزع البيعة من أمير الكويت الراحل الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، وظلَّ يتواصل مع الجماعات والتنظيمات الإرهابية، مثل "النصرة" و"داعش"، التي كان مُتحالفًا معها، ومُؤمنًا بأفكارها ومبادئها ومُعتقداتها، برغم كونها محظورة، وأيديها ملطَّخة بدماء الأبرياء؛ كما أنه ظهر كثيرًا في منصات إعلامية مشهورة، يدعو فيها الشباب إلى "الجهاد" في سوريا والعراق؛ حتى إن الحكومة الأميركيَّة والأمم المتحدة اتهمتاه بدعم الإرهاب، وتقديمه أموالًا إلى جبهة النصرة في سوريا، وفرضتا عقوبات عليه، وأدرجتاه في قائمة الإرهاب.

ولا شك في أن شخصيَّة بارزة ومعروفة، مثل حجاج العجمي، عندما تنسلخ من ماضيها الدموي، وتُبدي آسفها على ما مضى، وتُعلن التزامها بمبادئ الدولة، وخضوعها لتعليماتها الرسميّة؛ فإنها تقلِب رأس المِجن على تلك الجماعات التي احترفت القتل، وسفك دماء الأبرياء، وتشريد المدنيين العُزل، وتكدير الأمن والسّلم العام. وإضافةً إلى ذلك يفتح ندم العجمي باب التوبة لغيره من الأفراد المغرَّر بهم أيضًا، ويدعوهم إلى إعمال العقل، والعودة إلى جادة الصواب قبل الانغماس في جرائم لا تُغتفر.

إقرأ أيضاً: الدراما الإيرانيَّة.. رديئة السيناريو والإخراج

واللافت للنظر في هذه القضية هو أن الداعية الكويتي قد أعلن تحوَّلًا جذريًّا في مواقفه وتوجهاته؛ فحجَّاج العجمي الذي عرفناه مؤيدًا لـ"داعش" و"النصرة"، منذ عام 2011 حتى عودته إلى الرُّشد أخيرًا، أصبح أشرس المُهاجمين لهما، وأكبر الفاضحين لأفكارهما. وتنبع أهمية آراء العجمي في هذين التنظيمين من كونه اطلع - عن قرب - على أفكارهما وشؤونهما التنظيميَّة، وما يُكِنّه قادتهما وأتباعهما في عقولهم الباطنة؛ ولهذا كان التنظيمان يخشيان البوح بأسرارهما، وهو ما فعله العجمي بقوله إن "داعش" و"النصرة" جاءا إلى دمشق لتكفير أهلها، ومُحاربة الشعب السوري، وتأكيده عدم وجود اختلافات أيديولوجيَّة بين التنظيمين، وأن الفارق الوحيد بينهما يتعلق بالزعامة فقط.

ويُسجَّل للعجمي إقراره أن الجماعات المتشددة تستغل عاطفة الشباب وجهلهم، وتجعلهم وقودًا وحطبًا للنار المشتعلة في مختلف مناطق الصّراع، واعترافه بأنه هو نفسه كان واحدًا ممَّن غُرّر بهم، وأنه - برغم علمه وسعة اطلاعه - تعاطف مع بعض هذه الجماعات، وسار في ركبها من دون أن يكون لديه سوء نيَّة بحسب قوله، ولكنَّ التاريخ - كما نعلم - لا يشهد على الظَّاهر، والباطن يظل خاصًّا بصاحبه، وحسن النيَّات لا يشفع في حال ارتكاب الأخطاء.

إقرأ أيضاً: تفجير موسكو... لماذا يصر القيصر على توسيع دائرة الاتهام؟

وعلى الرغم من أن العجمي يحاول على الدوام في منصات التواصل الاجتماعي، وكلّ منبر إعلامي يُتاح له، التبرؤ من أفعاله السابقة واعتذاره عنها - في سابقةٍ ربما لم يفعلها كثيرون غيره من أصحاب الأهواء والأوهام - فإن وزارة الخزانة الأميركيَّة فرضت عقوبات عليه، ولا يزال اسمه مدرجًا في قوائم الإرهاب العالمية؛ ما دعاه إلى التقدُّم مرتين بطلب تظلُّم ينادي فيه برفع اسمه منها، ولكنَّ طلبه رُفض في كلتا المرتين.

وختامًا نهنئ الكويت حكومةً وشعبًا بتجاوز آلامهما، والمضي قُدمًا في المرحلة الانتقاليَّة الحالية التي خُطّط لها بعقلانية، ورُسمت خطوطها بحكمة وجرأة؛ لتسلك الدولة الخليجية طريق النجاح والنماء والبناء، وتلحق بركب شقيقتها الكبرى المملكة العربيَّة السعوديَّة، وصولًا إلى غد أفضل يليق بشعبي البلدين، آملين أن تبقى الكويت -بإذن الله- آمنة مطمئنة، وتصبح نموذجًا يُحتذى به عربيًّا وعالميًّا كما سبقتها إلى ذلك السعوديَّة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان.