في السنوات الأخيرة، بات السؤال الذي يطرحه المواطن السوري على نفسه يزداد إلحاحًا وجرأة، بعد أن انكشفت أمامه الحقائق وتجاوز حواجز الوهم التي عاشها لسنوات عجاف. السؤال الذي يدور حول السبب الحقيقي وراء إلغاء الهوية السورية، تلك الهوية التي لطالما كانت رمزًا لمقومات جمالية وحضارية امتد صداها في العالم العربي، لتُعرف سوريا بأنها أرض التاريخ، الثقافة، والإنسان.

الواقع السوري اليوم يشهد تحولات جذرية، أشبه بجراحة قسرية استهدفت المجتمع وهويته، ليس بسبب النزاعات الداخلية فحسب، بل نتيجة سلسلة من الأخطاء المتعمدة التي خُلقت لتسهم في تحطيم ما تبقى من الكيان السوري. هذه الأخطاء، كما يبدو، لم تكن مجرد عثرات عابرة، بل خطة مدروسة لتحقيق مصالح معينة على حساب الشعب السوري الذي تحمل قسوة الظروف، الفقر، والعوز، وتعرض لظلم سياسي وقهر اجتماعي، في ظل حكومات فاسدة وقيادات همشت دور المواطن وقيمته.

لم يقتصر الشتات السوري على حدود الوطن فقط، بل امتد ليشمل أولئك الذين اختاروا أو اضطروا للهجرة إلى بلاد أخرى، ومنها الولايات المتحدة. في تلك البلاد، تبرز مفارقة مؤلمة، إذ يجد السوري نفسه يواجه أشخاصًا من أصول عربية، ولدوا في المهجر، ولكنهم تخلوا عن جذورهم وهويتهم العربية. هؤلاء الأفراد، الذين يُفترض أن يكونوا سفراء لهويتهم، يساهمون في إلغائها من خلال ممارسات تعكس اندماجًا أعمى في ثقافات أخرى، إلى درجة التنكر لأبسط القيم الإنسانية، كالسلام والمصافحة.

السلوكيات المتنكرة للعروبة ليست مقتصرة على الأميركيين من أصول عربية فقط، بل تعكس مأساة أكبر تتجلى في تراجع الهوية القومية لدى هؤلاء الذين باتوا يرون في الثقافة الأميركية نموذجًا يُحتذى، حتى لو كان ذلك على حساب مبادئهم وتقاليدهم.

أما في الوطن العربي، فقد بدت الهوية السورية هدفًا سهلاً لبعض الأنظمة التي ساهمت في تفاقم الأزمة السورية. دول كانت السباقة في توجيه السهام نحو سوريا وشعبها، واليوم تتصدر المشهد كمنقذين ومناصرين، رغم أن أفعالهم السابقة تلقي بظلالها على مصداقيتهم. هذه التناقضات تجعل من العسير الحديث عن تضامن عربي حقيقي مع الشعب السوري، الذي ظل وحيدًا في مواجهة مؤامرات دولية وإقليمية سعت إلى تفكيك البنية الحضارية لسوريا، تحت شعارات زائفة.

إقرأ أيضاً: تساؤلات في واقعنا العربي

خلفت الحرب السورية مآسٍ لا يمكن اختصارها في كلمات. شُرِّدت ملايين الأسر، ودُمرت آلاف المنازل، وفقدت المدن والقرى ملامحها الأصلية. ذاكرة السوريين أصبحت مثقلة بالمآسي، ومع ذلك، ما زال الحديث عن مصيرهم بالنسبة للعديد من العرب المتأمركين وغيرهم، مجرد وسيلة لتمضية الوقت.

في المهجر، يبدو التباين واضحًا بين العمال السوريين الذين يكافحون من أجل لقمة العيش، وأولئك المستثمرين أو أصحاب الأعمال، الذين ينظرون إلى مأساة إخوتهم من باب الفضول أو التسلية، متسائلين عن جدوى الثورة وأهدافها، وكأن ذلك مجرد نقاش عابر.

إقرأ أيضاً: سقوط الطاغية وبزوغ شمس الحرية

اليوم، يتأرجح مفهوم الهوية السورية بين البقاء والاندثار. الشتات القسري الذي عانى منه السوريون لم يكن مجرد انتقال جغرافي، بل هو في جوهره فقدان لمعالم ذاتية وتاريخية. السوريون الذين اضطروا إلى الهجرة تركوا وراءهم ذكرياتهم وأحباءهم، ودفعهم الخوف من المستقبل إلى قبول مصير مجهول، حيث أصبحوا مجرد أرقام في لوائح اللجوء، أو نقاطًا هامشية في صفحات التاريخ.

قد تكون الثورة السورية انطلقت لتحقيق أهداف نبيلة، ولكن الواقع المؤلم يكشف أن الشعب السوري هو المتضرر الأكبر. فقد الأمان، حُرم من أساسيات الحياة، وعانى من غلاء فاحش أنهك الجميع. كل ذلك، لم يكن إلا لخدمة نزوات قيادات أو مصالح دولية، دون أي اعتبار لمعاناة المواطن البسيط الذي تحمل العبء الأكبر من هذه الكارثة.

إقرأ أيضاً: سوريا وتضييق الخناق على حرية الرأي والتعبير!

اليوم، يقف السوري أمام سؤال كبير: ما مصيرنا؟ الإجابة لم تعد تهم الكثيرين، لأن المعاناة طغت على الأمل، وتحولت الثورة إلى عبء نفسي ومادي على السوريين داخل الوطن وخارجه.

إن القضية السورية ليست مجرد أزمة عابرة، بل هي مأساة إنسانية ممتدة، تكشف عن فشل الأنظمة العالمية في تحقيق العدالة، وعن تخلي العديد من الأطراف عن مسؤولياتهم الأخلاقية تجاه الشعب السوري. في النهاية، يبقى السوريون هم الأبطال الحقيقيون لهذه القصة، رغم كل ما مروا به من معاناة. ومع ذلك، تظل التساؤلات قائمة: هل هناك أمل في استعادة ما فُقد؟ وهل يمكن للهوية السورية أن تنبعث من جديد؟