يبدو أن جميع أطراف الصراع الفاعلة اتفقوا ضمنياً أن الوقت حان للوصول إلى إنهاء الحرب أو تجميدها ضمن اتفاق مبادئ أعلن عنه رئيس الولايات المتحدة الأميركية جون بايدن لاعتبارات سياسية تدلل أن تنسيقاً تفاوضياً تم في الأسابيع الماضية تتوج بالإعلان عن اتفاق أميركي.

ضمانات قطرية وتركية بموافقة حماس سبقت إعلان الرئيس بايدن، قابله تأكيد أميركي بتجاوب حكومة بنيامين نتنياهو الباحثة اليوم عن فسحة سياسية وسط زحام الحرب وضغوطها، بعد أن حققت سيطرة على محور فيلادلفيا ومعبر رفح.

رغم التباس بعض تفاصيل الاتفاق، وعدم ارتقائه إلى خطة سياسية متكاملة تعالج كافة قضايا القطاع الراهنة، رأى الوسطاء أفضلية بقاء مناقشة هذه التفاصيل في الغرف المغلقة بعيداً عن جهات إقليمية قد تدفع لعرقلة الجهود الأميركية.

مجدداً.. نجد قصور الاتفاق المعروض حالياً عن معالجة أوضاع القطاع، خاصة الأمنية؛ حيث أنَّ إنهاء الحرب وانسحاب قوات الاحتلال وتمركزها داخل مناطق محددة في القطاع، وتأخر نشر قوات حماية دولية، يدق ناقوس الخطر، وينذر باقتتال أهلي داخلي في القطاع على مرأى ومسمع قوات الاحتلال التي ستديره وتغذيه وفقاً لمصالحها وأهدافها.

إنَّ تنامي الفوضى في القطاع هو مخطط إسرائيلي سعت إليه منذ اليوم الأول للحرب من خلال إنتاج بيئة طاردة للفلسطينيين وتوظيفها في إشعال نيران الاقتتال بينهم، خاصة في ظل غياب رؤية سياسية واقتصادية لليوم الثاني للحرب، وتقييد وكالة الأونروا من ممارسة مهامها بتجفيف منابع تمويلها، ومحاولات إسرائيلية لخلق بديل محلي عن حماس، وهو ما تعول عليه حكومة نتنياهو في هروبها من استحقاقات المرحلة المقبلة.

إنَّ بذور الاقتتال الأهلي في قطاع زُرعت بعناية على مدار أيام شهور الحرب، فبيئة غزة تقوم على غياب أساسيات استمرارية الحياة، وتفشي الفقر والعوز، وتنامي حالات الاحتقان والسخط داخل المجتمع، وهشاشة نظام حكم حماس، التي ستسارع إلى إعادة فرض نفسها بالقوة داخل الشارع الغزي بصورة ستصطدم بها مع فئات مجتمعية ستجعل من العصيان السبيل الوحيد على واقع أنتجته حرب إسرائيل على القطاع.. ومغامرات قيادات حماس.

حماس عمدت في حساباتها ما قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وما تلاه، إلى عدم الزج بكامل قواتها وكتائبها في أتون الحرب، تحضيراً لليوم التالي، فالحركة التي انهار ما يقارب ثلثي قواها حسب تقارير استخباراتية، تدرك أنَّ انتصارها الوحيد سيكون في إبقاء مظاهر سلطتها في القطاع، وهي مظاهر سعت الحركة لتكريسها أثناء الحرب في إعادة انتشار عناصرها الشرطية، واستحواذها على كميات من المساعدات الإنسانية وتوزيعها على فئات محسوبة عليها لدعمها وتأييدها ما بعد انتهاء الحرب.

ولا يتوقف الأمر على ما سبق، فخلال الشهرين الماضيين قامت حركة حماس عبر عناصرها المسلحة باغتيال عدد من رجالات ومخاتير العشائر الفلسطينية، أبرزها عشيرة دغمش، صاحبة النفوذ الكبير داخل القطاع، والتي قد تشكل بديلاً قادر على استلام جزء من المساعدات الإنسانية وتوزيعها، وتحقق نوع من الأمن والحماية في بعض مناطق القطاع، وقد تبسط سيطرتها بمساعدة بعض عشائر وقيادات مجتمعية اخرى، مما أثار حفيظة قيادات حماس، التي اغتالت عدداً منهم، وبالذات عشيرة دغمش، لتخرج بعدها ببيان تتبرأ من قتلهم، وتتهم إسرائيل بقصفهم بغارة أدت إلى موتهم، وكم من عمليات التصفية والاغتيال نفذت في الأشهر الماضية دون رقيب أو حسيب تحت حجة القصف الإسرائيلي.

إقرأ أيضاً: المعركة السياسية الفلسطينية- الأميركية في الأمم المتحدة

سابقاً، عندما قامت حماس بانقلابها الدموي، وقتلت أكثر من 700 شخص رمت بعضهم من أسطح المباني، حينها كانت الثقافة النضالية الفلسطينية متأصلة في المجتمع الفلسطيني، مما كان لها أثر في منع تفاقم تداعيات الانقلاب ووأد فتنها، ليسلم القطاع لحماس وكتائبها دون إراقة دماء أكثر.

اليوم الصورة مختلفة بعد 17 عاماً من حكم حماس الدكتاتوري، فما يسمى الجبهة الداخلية للقطاع منهارة تماماً، والسائد حالات الاحتقان والسخط المتنامي، التي حتماً ستنفجر على شكل موجات عصيان تأخذ طابع العنف في وجه حماس وكتائبها وعناصرها وأنصارها، فالدماء الفلسطينية المهدورة أضحت بلا ثمن سياسي حقيقي، فلماذا كانت الحرب إذا أصبح هدف حماس التفاوضي العودة إلى ما قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)؟

إقرأ أيضاً: صراع خفي على مركز الوسيط الأول في حرب غزة

سلاح الاقتتال الأهلي أو الداخلي، سلاح أميركي بامتياز، استخدم في العديد من المناطق التي احتلتها الولايات المتحدة، كالعراق وأفغانستان وليبيا وسوريا وبعض دول قارة أفريقيا، وهو ما يفسر الاندفاع الأميركي المعلن بمساعدة إسرائيل في القضاء على حماس بخيارات وطرق أخرى غير استمرار الحرب.

فالولايات المتحدة تريد ترك بقايا حماس ومصيرها للشعب في قطاع غزة، على قاعدة أنَّ القلاع تهزم من الداخل، هو سيناريو سيخدمها فيما بعد بسقوط أحجار الدومينو الإيراني في المنطقة، في استثمار قد يؤسِّس لاحتجاجات وموجات شعبية في عواصم النفوذ الإيراني على غرار ما سمٌي سابقاً بثورات الربيع العربي.