السؤال الأكثر إلحاحاً منذ الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران هو: هل سترد إيران؟ وكيف سيكون الرد؟ الإجابة على هذا السؤال هي أن إيران لن ترد على الأرجح على الهجوم الإسرائيلي، وذلك لأسباب واعتبارات موضوعية عديدة في مقدمتها ما تعكسه الشواهد والمعطيات من تفاهمات واسعة تمت قبل شن الهجوم الإسرائيلي وبموجبها تم إبلاغ الجانب الإيراني بالهجوم والأهداف المتوقعة له، وفقاً لتأكيدات مصادر أمريكية مطلعة لموقع "أكسيوس"، وهي تفاهمات جاءت على عكس ما يريد الجانب الإسرائيلي الذي كان يسعى إلى هجوم "قاتل ودقيق ومفاجىء" بحسب تأكيدات وزير الدفاع يوآف غالانت، ويبدو الدور الأمريكي في هذه التفاهمات واضحاً، لذلك فإن هذه التفاهمات تصبح جزءاً من اتفاق ضمني تمتنع إيران بموجبه عن الرد على الهجوم الإسرائيلي.

عامل الحسم في الالتزام بهذه التفاهمات يكمن في مدى التزام دولة إسرائيل بقائمة الأهداف التي تم إبلاغ إيران بها، حيث يبدو أن الخسائر الإيرانية في الهجوم محدودة وتنحصر في منشآت عسكرية، الأمر الذي يرفع عن النظام الإيراني الحرج تماماً في حالة عدم الرد ويوفر للجانبين الإسرائيلي والإيراني فرصة مواتية للادعاء بتحقيق الأهداف والانتصار نفسياً على الجانب الآخرى؛ ومايؤكد ذلك أن هناك تعتيم إعلامي لافت للنظر من الجانبين الايراني والإسرائيلي، وهناك تسريب للمعلومات يتم بحرص شديد لدرجة أنه بات من الصعب معرفة طبيعة هذه الضربات وهل تمت بالطائرات أم بالصواريخ وهل تمت من داخل المجال الجوي الايراني أم من خارج الحدود الايرانية.

بموجب هذا الهجوم عاد الجانبان شكلياً/ فعلياً إلى حالة توازن القوى وقواعد اللعبة التي كانت تحكم صراعهما طيلة السنوات الفائتة، ورغم أن هذه الوضعية الاستراتيجية لا تناسب أهداف الحكومة الاسرائيلية في التوقيت الراهن، بل تعتبر بمنزلة خسارة كبيرة لأنها تنطوي على تفويت فرصة سانحة تماماً للنيل من إيران وهي في أضعف حالاتها الاستراتيجية إقليمياً ودولياً، ولكن حكومة نتنياهو قد اكتفت فيما يبدو بتقييد حركة أذرع إيران الاقليمية، بالقضاء على قادة حزب الله وحركة حماس الإرهابيان ، واحتفظت بالمقابل بعلاقات التحالف القوية مع الولايات المتحدة التي كانت تتحفظ بشدة على إشعال أي حرب اقليمية عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية. والمتوقع في هذه الحالة أن تركز دولة إسرائيل على الحروب السيبرانية أو الحرب الهجينة كاستراتيجية أكثر فاعلية وأقل كلفة لكبح التهديدات الايرانية، فرغم التفوق النوعي الاسرائيلي في القدرات الصاروخية والجوية، فإن حكومة نتنياهو تدرك حساسية الظروف الداخلية وصعوبة ابقاء الاسرائيليين في حالة قلق واستنفار بسبب استمرار التهديدات الإيرانية.

ثمة أسباب أخرى لترجيح عدم الرد الإيراني، منها أن طهران تدرك أن الهجوم الإسرائيلي المحدود ربما يستهدف استدراجها للقيام برد يوفر الغطاء الأقوى لتوسيع الحرب ضد إيران، وبالتالي فإن استراتيجية النظام الايراني في مثل هذه الحالات تقوم على تفادي التورط والاستدراج، ولاسيما أن الهجوم الاسرائيلي جاء رداً على هجماتها وبنفس الطريقة من دون أن يلحق أضراراً كبيرة بمنشآت عسكرية إيرانية، علاوة على أن استراتيجية إيران الأساسية تقوم على الحرب بالوكالة وليست خوض حرب مباشرة، وبالتالي فهي لا تزال تمتلك فرصة الرد على الهجوم الاسرائيلي من خلال تكثيف عمليات وكلائها في لبنان واليمن والعراق. يعطي النظام الايراني أيضاً أولوية كبرى للحفاظ على البنية التحتية الشبكية للوكلاء الاقليميين، وبالتالي فإن محاولة تبريد الأوضاع وتجنب الخسارة التامة للوكلاء يمثل هدفاً إيرانياً معتبراً لدى النظام في الوقت الراهن، وليس مسايرة دولة إسرائيل في نهج الضربات والضربات المضادة.

عامل آخر مهم للغاية بالنسبة للنظام الايراني وهو موقف الشعب الإيراني، الذي لم يشعر بالهجوم الاسرائيلي ولم يشعر بوجود أي خسائر فعلية، وبالتالي فإن هيبة النظام المتشدد لم تتأثر، كما أنها حافظت على كبريائها من خلال محدودية الهجوم الاسرائيلي الذي يعد فعلياً الأول من نوعه الذي تشنه دولة إسرائيل ضد إيران بشكل معلن ومباشر، ولكنه استهدف بالأساس اختبار حدود قدرة الأنظمة الدفاعية الايرانية ولم يشتبك بشكل مباشر مع القدرات الدفاعية الإيرانية، وبالتالي فإن النظام الايراني يستطيع ادعاء تحقيق هدف ردع إسرائيل عن شن هجوم عسكري واسع ضد إيران، بينما تستطيع إسرائيل بالمقابل ادعاء النجاح في الوصول للعمق الايراني من خلال الطيران والصواريخ والمسيرات وقصف أهداف داخل إيران رغم احجام دول مجلس التعاون عن فتح أجوائها للهجوم الإسرائيلي، والقول كذلك بأن الهجوم يمكن تكراره وتنفيذه بشكل أوسع وأكثر إيلاماً بعد كسر الحاجز النفسي الذي ترسخ بين البلدين طيلة سنوات طويلة.

في المجمل، يمكن القول بأن الهجوم قد حافظ على التوازن الاستراتيجي النسبي بين إيران ودولة إسرائيل، ومنح كلاهما فرصة التقاط الأنفاس وادعاء النصر والتفوق، وهو ما يعني أن فرصة إيران في اتخاذ قرار الرد على الهجوم الإسرائيلي تبدو ضعيفة للغاية إن لم تكن معدومة، ولكن هذا لا ينفي فرصة استمرار الحرب النفسية والتصريحات الدعائية والتهديدات المتبادلة باعتبار أن هذه الحرب الكلامية تندرج ضمن المسموح به في علاقات الطرفين. ورغم التصريحات الاستباقية الايرانية التي يبرز منها تصريح المتحدث باسم الخارجية الايرانية إسماعيل بقائي بإن "أي عدوان من النظام الإسرائيلي على إيران سيتم الرد عليه بكل قوة"، وكذلك مانقلته "نيويورك تايمز" عن 4 مسؤولين إيرانيين من إن المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي أمر الجيش بوضع خطط عسكرية متعددة للرد على أي هجوم إسرائيلي، فإن هذا كله يندرج ضمن السقف المسموح به للتراجع إيرانياً، لاسيما أن شدة الهجوم الإسرائيلي لم تكن بالدرجة التي تستدعي رداً إيرانياً، فلا أضرار واسعة النطاق ولا خسائر بشرية عالية حيث اقتصر الهجوم على عدد قليل من القواعد العسكرية والمستودعات التي تخزن بها الصواريخ والطائرات المسيرة، وبالتالي يصعب القول بأن هناك ردا إيراني قادم مالم ترغب إيران على إعطاء فرصة ذهبية لدولة إسرائيل للقيام بما رغبت به الأساس من تدمير لأهداف إستراتيجية منعته منها الولايات المتحدة.