مثلما تم اقتلاع جذور التقدُّم والتحضُّر في البيئة العربية، وتهديمها بكوارث الفقر والجهل ونكبات الحروب والأيديولوجيات العقيمة، وتفاقُم الأمراض الاجتماعية والفساد، وسيادة سياسات القمع والاستبداد وتكميم الأفواه، واقتلاع العقل العلمي، واستبداله بالعقل الجاهلي القديم الذي يكره الحياةَ والتنمية، حتى كِدنا نُصدِّق ما يُقال بأن هذا الوطن الكبير، صاحب الخيرات والحضارات؛ قد خرج من تصنيف الأمن والسعادة والرفاهية والتنمية، إلى تصنيف الفوضى وعدم الاستقرار والسُّبات الأبديّ؛
أنظروا إلى أوطاننا البليدة، كم تُهدَر من ثرواتها يوميًّا، ويُنهب نفطها، وتُسلب عقولها، وتُهدر كرامتها، وتحوَّل حدائقها إلى ساحات حروب واقتتال، ومخازن للأكل والملابس والمخدرات، وبيئة لتنفير العقول المبدعة، ودفعها إلى الهجرة والرحيل إلى دولٍ أخرى لم تُنفِق في تكوينهم مليمًا واحدًا.
أوطان ما زالت تعيش بعقل الجاهلية الأولى، وتمتهن تجارةَ الموت والغيبيات، وتصنع يوميًّا للمواطن العربي مآتم وحروباً؛ من أجل الطائفة والمذهب والأثنية والمناطقية، حيث ترميم العقل بإسفلت البلادة، وقتل جيناته وخلاياه؛ لكي لا يُستعمل للخير والابتكار.
أوطان مشتعلة بلهيب الحروب والفقر؛ حيث المواطن يعيش على سطوح المنازل، وبين قبور الأموات؛ فلا يجد رغيفَ خبزٍ يأكله، سوى ما تنتجه مزابل البشر للجائعين، وجيوش من العاطلين والشحَّاذين يجوبون شوارعها قهرًا وفقرًا، ولصوص ومافيا يسرقون خيراتها، وأحزاب وعشائر تفكر ببطونها، وبعران من السياسيين تأكلهم غرائز المال والسلطة والجاه!
في أوطاننا، تُهدر الثروات المادية والبشرية، وتقطع أوصالها بسكين الجهلة، وأعداء العلم، ويموت الولاء للأوطان بأفيون الفساد والولاءات الأيديولوجية المثيرة لغرائز الموت والقهر والاستبداد، فتُقتل الأحلام السعيدة، ويُمحى الأمل من العقول، وتتكدس الآهات والمحن في مخازن النفوس! وتُسلب الثروات على الطريقة الجاهلية؛ ثروات الشعوب، وثروات العقول!
أوطان لا تفكر إلا بتوفير القصور والجنائن المعلقة للحاكم والحزب! لا يهمها أمن وسعادة المواطن. مغرمة بالهجرات الداخلية والخارجية، وسعيدة عندما تُغادرها العقول العلمية المبدعة؛ حتى تكون في مأمن من مشاكسات وضجيج العقول المستنيرة التي تُحرك سكون التخلف، وتُوسِّع من مدارك أفق التفكير، وتُرمّم بيوت الأوطان بالتنمية والابتكار.
لقد فازت اليابان وألمانيا وسنغافورة وماليزيا وتايلاند... وغيرها من النمور الآسيوية، على الجهل والتخلُّف والفقر، وفوزها كان بثروة العقل؛ وليس بأطنان النفط والغاز، ولمعان الذهب ومناجمه، فالمعجزة اختُصِرت بالعقل والتعليم والإدارة وتنمية البشر؛ بينما هُزِمت دول عربية ونيجيريا وفنزويلا وغيرها من دول العالم الثالث، الغارقة بالنفط أمام الفقر والجوع.
مازالت أوطاننا طاردَّةً للعلم، وجاذبةً للجن والعفاريت والمفسدين، وتصر على تهجير العقول المبتكرة. ومازال نزيف الأدمغة مستمراً باضطراد كبير، لا يتوقف بمنطق الخسارة والربح، فالمكاسب التي تحصل عليها الدول المستقبِلة للكفاءات أكبر من المكاسب التي تحصدها الدول المُصَدِّرة من هجرة عقولها وكفاءاتها.
ما زال الاعتقاد قائمًا بأن التنمية هي من صُنعِ الحاكم (الفذ) و(الضرورة)، وأنَّ الحياة لا تستقيم إلا بموعظة من بطون التاريخ، ومن قصاصات الفتاوى التي ترى ما لا نراه في الواقع؛ فالمخترعات الغربية لا تعجب سكان القرون الوسطى!
إقرأ أيضاً: يورانيوم الإعلام
هناك كوارث كبيرة على فقدان ثروة العقول العربية، وتلوث بيئي في الإبداع والعلم، وهو ما يجعل هجرةَ العقل من الموطن إلى الوطن الآخر؛ خسارة جسيمة لا تعوض -بكل المقاييس-. وهي تعني انتقال أهم رأسمال اقتصادي للبلد -ألا وهو الرأسمال البشري المختص، المؤثر في تطور الاقتصاد القومي، وعلى التركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية، حيث الحرمان من الاستفادة من خيرات ومؤهلات هذه الكفاءات في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وتشير التقارير الدولية إلى خسارة العرب 300 مليار دولار جرَّاء ظاهرة الهجرة إلى دول أوربا وأستراليا وكندا. كل عام يهاجر نحو مئة ألف من أصحاب الاختصاصات النادرة والحرجة والاستراتيجية في الطب والهندسة والتكنولوجيا، من مصر وسوريا والعراق ولبنان والأردن وفلسطين وتونس والمغرب والجزائر. 54 بالمئة من الطلاب العرب لا يعودون إلى بلدانهم الأصلية، و34 بالمئة من الأطباء العرب من إجماليّ عدد الأطباء في المملكة المتحدة.
إقرأ أيضاً: صارت فلسطين قصة طائفيّة
وبالأرقام الرسمية، وحسب إحصائيات المؤسسات الرسمية العربية والأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو، فإنَّ العرب قد فقدوا ثلثَ طاقتهم البشرية جرَّاء الأدمغة العربية المهاجرة، وهناك خُمس السكان -على الأقل- في 14 دولة عربية يفكرون في الرحيل إلى الشمال والغرب. والأكثر حرصًا على هذه الهجرة هم الحاصلون على شهادات عليا أو شهادات جامعية في ظل أُميَّةٍ أبجدية عالية تنخر في بنية المجتمع العربي.
باختصار، هناك استنزاف ظاهر وباطن، والأخطر: هو استنزاف المجتمع اقتصاديًّا وعلميًّا من دون رؤية ظاهرة، ومعرفة دلالاتها؛ بسبب طبيعتها غير المنظورة، وصعوبة تقدير حساباتها الاقتصادية المباشرة، فهي تنخر في الباطن، ولا تشعر الدول العربية بمخاطرها الاقتصادية؛ إلا عندما تصطدم الإرادات المتباينة أو تبدأ الرغبات بإيقاظ الحاجات!
يا لتعاسة الأوطان عندما يتقدم الجاهل على عظيم العقل!
التعليقات