لقد أخرج الإمام الخميني نفسه من فضاء الفكر النظري وأتاح نقد نظرياته وأفكاره وعقيدته ومراجعتها والحكم لها أو عليها، حين دخل عالم السياسة، وجلس على كرسي القيادة السياسية، وأخضع كل صغيرة وكبيرة من شؤون المجتمع والحكم لنظرياته ومقاييسه الشخصية، وأقدم على فرضها بالقوة على شعوب إيران المتفاوتة والمتنوعة في الديانة والطائفة والقومية، وفي المصلحة والعادات والتقاليد، فارضاً سلطة الدين الإسلامي بصيغته التي يعتقد، هُو، بأنها الأمثل والأصلح والأحق بالاتباع، حاكماً على كل مخالفيه في الرأي والعقيدة بالكفر والمروق والخروج عن طاعة الله ورسوله، الأمر الذي جعله يُفتي باجتثاث آلاف العلماء والخبراء والمفكرين ورجال الدين والقادة العسكريين والسياسيين والمثقفين والفنانين التشكيليين والمطربين والموسيقيين وُكتاب الرواية والشعر، ويأمر بسجن بعضهم وتهجير البعض الآخر ممن يرى فيهم عقبات وموانع تعيق مسيرته، وتعرقل ولادة حلمه الكبير في إعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية القديمة، ولكن بثياب إسلامية شيعية خالصة هذه المرة.

ولعل أخطر ما فعله الخميني هو أنه منح جماعاته المتطرفة تلك، والتي كانت في غالبها غوغائية وعبثية وعشوائية، صلاحياتٍ مطلقة في تطبيق نظرياته الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية الجديدة، بقوة الدولة وجيوشها وأدواتها الكثيرة.

وأمثلة ذلك كثيرة. ورغم ذلك، وإلى هذا الحد، كان يمكن أن يظل من حق الإيرانيين المتضررين من فكر الإمام وتطبيقاته، وحدهم، رفض هذه النظريات والممارسات، باعتبارها مسألةً إيرانيةً داخلية محضة.

لكن حين أطلق الخميني نظريته الشهيرة المعروفة باسم تصدير الثورة إلى الخارج، ساعياً إلى فرض أفكاره وخيالاته وأحكامه على المسلمين وغير المسلمين في الدول المجاورة، وغير المجاورة، أصبحت المسألة قضية عامة بالنسبة إلى الشعوب التي أصبحت هذه النظريات والممارسات تهدد حياتها في الصميم، وتعرض أمنها وسلامها وحياة أجيالها القادمة لخطر جسيم. ومعروف ماذا حدث بعد ذلك.

فقد أنتج الخلل السياسي الذي كان قائماً في عراق الرئيس الطيب المسالم الضعيف عبد الرحمن محمد عارف حاكماً جديداً مغامراً صعباً لا يقلّ عن الخميني عنجهية وعناداً وإصراراً على فرض عقيدته الواحدة على الآخرين، هو صدام حسين، مع ما كانت له من عداوة شخصية سابقة مع الخميني تولدت وتعمقت حين تصرف بحماقة، وهو نائب الرئيس العراقي الأكثر قوة ونفوذاً من الرئيس نفسه، فطرَد الإمام من النجف، ووضَعه على حدود الكويت، لإرضاء الشاه وإصلاح العلاقة معه.

وكما كان متوقعاً، لم ينسَ الخميني تلك الإساءة البالغة. ودون شك كان لتلك الحادثة تأثيرها الفاعل في مباشرة حرب المناوشات على الحدود بين الجارين، ثم اشتعال الحرب الدامية الشاملة، في العام 1980.

وحتى بعد انتهائها في العام 1988، بعد أن اضطر الخميني مرغماً إلى إنهائها، بقي الشعبان في البلدين يدفعان أثمان الحقد الشخصي المتبادل بين الإمام وصدام، ثم واصل ورثة الخميني، بعد وفاته، الرغبة في الانتقام من نظام صدام، حتى جاءت الفرصة وتطوعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية لمعاونة الجيش الأميركي على نجاحه في غزو العراق في 2003.

إقرأ أيضاًَ: ديمقراطية عراقية خمس نجوم

وهنا نسأل: ماذا حقق الخميني لشعبه الإيراني، أولاً، وللشعب العراقي، ثانياً، وللطائفة الشيعية في العالم، ثالثاً، بفهمه الخاص لروح لإسلام، ومحاولة فرضه على الآخرين بقوة السلاح؟

كم خسرت إيران، في خمسة وأربعين عاماً، وكم تخسر اليوم، وكم ستخسر غداً، في ظل نظام مصرّ على تحقيق أهداف توسعية غير واقعية وغير قابلة للتطبيق ولا للتحقيق؟

وكم خسر جيران إيران وكم سيخسرون في الصراع المذهبي العنصري الدامي المستمر مع مجتمعات ترفض الاحتلال، وتصر على مقاومة الإثم والعدوان؟

إقرأ أيضاً: رسالة عراقية إلى السودانيين

ثم، ألم يزرع الفكرُ الخميني الرعب في قلوب الأجانب من الإسلام، ويجعلْ كل مسلم، في اعتقادهم، مشروعاً إرهابياً موشكاً على الانفجار؟

والسؤال المهم: هل صحيح أنَّ إسلام الخميني هو الصحيح وإسلام غيره مشوب بالريبة والشكوك؟ وهل صحيح أنَّ الدين الإسلامي، كما رآه الخميني، دين غدر وتآمر واغتيال ورشوة وتجارة مخدرات واختلاس؟

إنَّ العصر يتجه نحو تعويم نظام الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية العادلة العاقلة التي تؤمن حريةً متساوية لجميع أتباع الأديان والعقائد والطوائف، ولا تسمح بفرض عقيدة واحدة على المواطنين، حتى لو كانت عقيدة الأغلبية من السكان.

إنَّ نظام طهران لم يُتقن شيئاً، ومنذ تأسيسه إلى اليوم، برهن على قدرته الفائقة على صناعة الخصوم والأعداء، في إيران وقارات الدنيا الخمس.

إقرأ أيضاً: من العاقل ومن المجنون؟

وما بدأ تنفيذه من إسرائيل وأميركا وأوربوا ودول متحلفة أخرى آسيوية وأفريقية لاجتثاث أذرع النظام الإيراني وفق منهج مقرر ومحدد، يعني أنَّ الحلم الخميني وصل، أخيراً، إلى نهاية شوط السباق الأخير.

يعني ذهبت الأرواح التي أزهقت، والأموال التي أنفقت، والملايين التي هُجرت كلها هباءً في هباء.

ولكن، وبكل تأكيد، وبكل الحسابات والمقاييس، إنَّ عالما بدون الولي الفقيه ومليشياته العراقية واللبنانية واليمنية والفلسطينية لا بدَّ أن يكون أجمل وأكثرُ أمناً وسلاماً، وأليقُ بكرامة البشر. فهل من معترض؟