ما يحدث في السودان، هذه الأيام، عادي وطبيعي ومتوقع. فحين تكون الجيوش مالكة شعوبها، ولا تكون الشعوب مالكة جيوشها، وحين يملك فائض القوة عسكريون لا يملكون سوى السلاح لا بد أن يظهر البرهان ودقلو، ويبدأ خراب البيوت.

وليس عبثا أن نجد الدول الديمقراطية المتحضرة تحرص على وضع سياسي مدني وزيرا للدفاع يتولى، نيابةً عن الحكومة المدنية المنتخبة، مهمة إدارة شؤون الجيش، واختيار قادته، وتقرير نشاطاته وأهدافه، كلها، فلا يخرج الجيش عن إرادة الناخبين. بل إن دولا عديدة وضعت نساءً وزيرات دفاع، كهولندا والنرويج وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا واليابان.

وذلك لأن التجارب علمت شعوب هذه الدول أن قادة الجيوش عندما يخرجون من ثكناتهم ويقتحمون فضاء السياسة، ويملكون مؤسساتها ووزاراتها، لا بد أن تخسر الدولة كثيرا من عافيتها بدخولهم إليها، ويخسر الجيش كثيرا من هيبته بخروجهم منه.

أما في بلادنا فعاديٌ جدا، ومتكرر جدا، في الزمان والمكان، أن تتخلى الجيوش عن واجبها الذي أنشئت له، فتغزو دولتها، وتحكمها بقوة السلاح.
ثم، لم ينجح انقلاب عسكري عربي واحد ثم تخلى قائدُه عن الرياسة، وعاد إلى معسكره، طائعا، وترَك الحكم لأهله، والسياسة لأهلها. والراحل السوداني الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب حالة استثنائية لم تتكرر، وقد لا تتكرر.

وبغض النظر عن الأيدي الخارجية المكتشفة والمستترة التي تُلاعب الطرفين المتقاتلين في السودان وتغدق عليهما بالسلاح والمال والخبراء والمدربين، فإن من يستمع إلى بيانات جيش الحكومة وبيانات الدعم السريع يتبين له أن الخصمين المتقاتليْن على الزعامة، حتى الآن، لم يستطيعا أن يجرّا إليهما جماهير الشعب السوداني لتصبح حربا أهلية يقتل فيها نصفٌ من الشعب نصفَه الآخر.

ومَن شاهد جنود البرهان صائحين (الله أكبر) وهم يعلنون أعداد القتلى والأسرى من جيوش العدو، ومجاهدي دقلو صارخين (الله أكبر) وهم يعلنون أعداد الضباط والجنود الذين قتلوهم أو أسروهم من جيوش العدو يتأكد من أنها كليهما بلا قيم ولا مبادي ولا أخلاق ولا دين، وأن الوطن وأهله وهمومه ومصالحه ومصيره آخرُ ما يخطر لأيٍ منهما على بال.

رغم أنهما، كليهما، يعلمان بأن في كل انقلاب عسكري ناجح أو فاشل يفقد شعبهم المئات من ضباطه وجنوده، والكثيرين من سياسييه وعلمائه وخبرائه، وأكواماً من دبابات جيشه وطائراته ومدرعاته، وأطنانا من القنابل والصواريخ التي دفع ثمنها الباهظ من رزق عياله.

وقد عودنا الإنقلابيون، في جميع الانقلابات العسكرية، في بيانهم الأول، على القول بأنهم ثاروا، فقط، لإنقاذ الوطن (الغالي) من الاستعمار وأذنابه، ولتحرير فلسطين، ولخلاص الشعب (العزيز) من فساد الطغمة الفاسدة. ثم حين تجرب الشعوبُ حاكمها الجديد تبكي على القديم.

وعمليا، وواقعيا، لم تقع مصيبةٌ أو كارثة أو مذبحة، في بلادنا المصابة بعاهة العسكرة المستديمة، عبر التاريخ الطويل، وكان صانعَها مفكرٌ أو أديب أو شاعر أو فنان. بل إنها، كلَّها، من إنجاز عسكريين مقامرين دفعتهم شهوة الزعامة والسلطة والقوة والمال إلى استخدام سلاح الدولة لقتل الدولة وأهلها.

وحتى حين يشذ عن القاعدة رئيسُ جمهورية عسكري فيكون عاقلا وعادلا ومسالما وغير منتقم ولا متآمر ومختلس فإن أعوانه العسكريين المقامرين، وقد يكونون من أقرب المقربين إليه، يرونه ضعيفا، فيتآمرون عليه، ويسقطونه، ويرثونه، ويعود الوطن إلى حكم الخُوذ الحديدية الباطشة، من جديد.

وليس مصادفة أن يكون السودان صاحب قصب السبق في الانقلابات العسكرية في المنطقة ويأتي بعده العراق. إسماعيل كبيدة 1957، إبراهيم عبود 1958، هاشم العطا 1971، عبد الرحمن سوار الذهب 1985، عمر البشير 1959، وأخيرا انقلاب 2019 الذي أطاح بالبشير، وجاء بالبرهان ونائبه دقلو.

ويأتي بعده العراق. انقلاب بكر صدقي رئيس أركان الجيش، 1936، حركة رشيد عالي والعقداء الأربعة 1941، عبد الكريم قاسم 1958، حركة عبد الوهاب الشواف 1959، فالبعث الأول 1963، فعبد السلام محمد عارف 1963، فالبعث الثاني 1968، فالغزو الأمريكي الذي جاء بالمليشيات التي تحكم عراق العبقريات والمواهب والخبرات والكفاءات الثقافية والعلمية والسياسية والاقتصادية والصناعية، بقوة السلاح، منذ 2003 وحتى اليوم.

مع ضارة واحدة نَعدُّها اليوم نافعة. ففي الانقلابات العراقية السابقة كان جيش الحكومة يظل موحدا وقويا وقادرا على ضبط الأمن، وحده لا شريك له. وكانت الحياة تعود إلى سيرتها الأولى، بعد الانقلاب بأيام، بكل عيوبها ومنغِصاتها.

إلا في أعقاب الغزو الأمريكي 2003، ووريثه الإيراني 2005. فقد حلَّ الأمريكيون وحلفاؤهم العراقيون جيش الدولة القديم، وأنشأوا جيشا آخر على مقاس مصالح قادة الأحزاب الطائفية والعنصرية الحاكمة. ثم جعلوا لجيش الحكومة جيوشا أخرى مرادفة أقوى منه وأحدث سلاحا وأشد شكيمة.

ولأن حدود الدولة لم يعد من يحرسها ويحميها من المهربين فقد تدفقت طوابير المليشيات الوافدة من إيران، بعدّتها وعديدها، ومفخخاتها ومخدراتها، فصار لا بد من الاحتراب، ولا بد من القتل الانتقامي على الهوية.

ولكن، وبرغم جبروت السلاح المنتقم الجبار، ورغم كواتم الطرف الثالث الملثم التي تغتال المطالبين بالخبز والحرية والكرامة وتسجل الجريمة ضد مجهول، فقد ثار شباب الشيعة على شيعة ولاية الفقيه، ونبَذَ أهلُ السنة سنّة الحكومة وإيران، ورفض الكرد فساد الأسرتين الباطشتين الحاكمتين، ولم يخافوا ولم يترددوا.

وصحيح أن الانتفاضة تمَّ وأدُها بالخيانة والعمالة والسلاح، فلم تمت النار وتصبح رمادا، وستعاود الاشتعال، في أقرب الأيام، وستنتصر.

فهل يفهم السودانيون درس العراق؟. فإذا لم يكن في السودان، اليوم، غير فريقين متقاتلين اثنين، مليشيا جيش الحكومة ومليشيا الدعم السريع، بدون تورط أحزاب الشعب ومنظماته المدنية، فإن مهمة الخلاص من كليهما أسهل وأيسر، الآن وليس غدا، وقبل أن يصبح السودان سوريا أو ليبيا ثانية، ولابد أن يستجيب القدر.