صاروخ ينطلق من روسيا ويضرب نيويورك يعني دمار الكوكب كله وليس نيويورك وحدها. أسلحة الدمار الشامل تتسكع في كل مكان، والجميع يهدد، ولم يجرؤ أحد بعد على التنفيذ. صاروخ واحد قد يغير المعادلة، ما يشكل خطرًا يقلق الجميع. الجميع يتخوف من الحرب النووية، فالحرب النووية كما هي معرّفة ضمن مصطلحات العلوم العسكرية هي صراع عسكري يتم فيه استخدام الأسلحة النووية، التي تصنَّف تحت مسمى أسلحة التدمير الشامل، وتتميز بقوتها التدميرية الهائلة الناتجة عن تفاعلات نووية معقدة مثل الانشطار النووي أو الاندماج النووي. ما يميز هذه الحرب عن الحروب التقليدية هو حجم الدمار الذي يمكن أن تسببه خلال لحظات قليلة، وتأثيراتها الواسعة النطاق على البشر والبيئة والبنية التحتية، والتي لا تقتصر أضرارها على الانفجار الأولي فحسب بل تمتد آثارها إلى الإشعاع النووي، الذي يمكن أن يسبب أضرارًا طويلة الأمد على صحة الإنسان والبيئة.

في ظل امتلاك القوى العظمى والدول الناشئة للأسلحة النووية، يبقى خطر الحرب النووية هو الأكثر رُعبًا لما يترتب عليه من تأثيرات مباشرة تتجلى في تدمير هائل لمدن بأكملها، بالإضافة إلى توليد حرارة يمكن أن تبلغ شدتها ملايين الدرجات المئوية، ما يؤدي إلى انتشار الحرائق على مساحات كبيرة، بالإضافة إلى ما يسمى موجة الصدمة التي تولد ضغطًا هائلًا يؤدي إلى تدمير المباني والأجسام الصلبة، محدثةً أضرارًا بليغة في المناطق المأهولة. والأهم من كل ذلك تأثير تلك الأسلحة على الإنسان الذي إن نجا من الموت سيصاب بحروق بالغة صعبة الشفاء، ناهيك عن انبعاث إشعاعات تسبب ضررًا فوريًا لخلايا الجسم. أما التأثيرات الطويلة الأمد لتلك الأسلحة والتي لا يمكن التخلص منها، فأولها التلوث الإشعاعي وتأثيره على البيئة والصحة العامة، فالغبار والجزيئات المشعة التي تتصاعد إلى الغلاف الجوي تتساقط على الأرض ملوثةً التربة والمياه والهواء. هذا التلوث يمكن أن يمتد لمسافات بعيدة عن موقع الانفجار، كما أن التعرض لهذه الإشعاعات يضيف احتمالات الإصابة بأنواع السرطان، ويمكن أن تظهر هذه الأمراض بعد سنوات أو حتى بعد عقود. يمكن أن تتسبب تلك الأشعة في إحداث طفرات جينية تؤثر على الأجيال اللاحقة، ما يؤدي إلى ازدياد في أعداد التشوهات الخلقية والإعاقات.

وبعيدًا عن الأثر المباشر للأسلحة النووية، يوجد أثر اجتماعي واقتصادي كارثي سيعقب الدمار النووي. فكارثة اقتصادية ناتجة عن انهيار البنى التحتية والأبنية السكنية ستخلف بدورها نزوح سكان المدن المدمرة والملوثة بالإشعاعات النووية التي ستدوم طويلًا، ما سيؤدي إلى تمزق النسيج الاجتماعي، مع زيادة في معدلات الفقر والبطالة، وقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع معدلات الجريمة والاضطرابات الاجتماعية، ناهيك عن ارتفاع احتمالات انهيار النظم الصحية المحلية، ما يؤدي إلى تفشي الأمراض وارتفاع معدلات الوفيات.

باختصار، تشكل الحرب النووية تهديدًا كبيرًا للبشرية نظرًا لتأثيرها المدمر على الأشخاص والبنى التحتية، بالإضافة إلى الآثار الطويلة الأمد على البيئة والصحة العامة والمجتمع والاقتصاد، وهذا ما يجعل التعامل مع تلك الحرب برعب شديد من كل دول العالم. مع ذلك، يمكن القول إن هناك مفاهيم مرعبة في الواقع قد ظهرت لمنع الحرب النووية، على رأسها وأهمها الردع النووي، وهي استراتيجية تهدف إلى منع الدول من شن حرب نووية عن طريق التهديد بالانتقام النووي. تعتمد هذه الاستراتيجية على فكرة تتمحور حول تكلفة استخدام الأسلحة النووية التي ستكون مرتفعة جدًا مقارنة مع الفوائد المحتملة. فالردع النووي يعتمد على القدرة على الانتقام بشكل مدمر إذا تم استخدام الأسلحة النووية ضد دولة ما. ومن ضمن السياسات التي تمنع اندلاع الحرب النووية أيضًا ما يسمى سياسة الدمار المؤكد المتبادل، وهي عقيدة عسكرية تقوم على أن القيام بأي هجوم نووي من قبل أي دولة ضد دولة أخرى سيتبعه انتقام نووي مدمر، ما يؤدي إلى تدمير كلتا الدولتين. ومن هنا تم عقد الكثير من الاتفاقيات النووية، على رأسها اتفاقيات عدم انتشار الأسلحة النووية ومعاهدات تخفيض الأسلحة النووية، التي لعبت دورًا مهمًا في الحد من انتشار الأسلحة النووية وتعزيز الاستقرار العالمي.

ومع ذلك، نعيش اليوم أقرب أيام الوصول إلى الحرب النووية، حيث تنتشر التوترات الجيوسياسية ومخاطر الدول غير المنضبطة، منها التوترات في شبه الجزيرة الكورية، وفي شرق آسيا تواصل الهند وباكستان بناء ترساناتهما النووية في ظل الصراع على الحدود بينهما، وفي الشرق الأوسط تزداد التوترات مع احتمال امتلاك إيران للسلاح النووي الذي سيشكل خطرًا على استقرار الشرق الأوسط. كما بات العالم اليوم لديه مخاوف من الإرهاب النووي وانتشار الأسلحة النووية، إذ إن هناك مخاوف من الجماعات الإرهابية التي قد تحصل على مواد نووية أو تقنيات تمكنها من صنع قنبلة قادرة على نشر المواد المشعة، ولهذا تعمل الدول على تعزيز الأمن النووي لمنع الوصول غير المصرح به إلى المواد النووية من خلال تحسين التعاون الدولي بين أجهزة الاستخبارات، كما أن انتشار المعرفة والتكنولوجيا النووية يزيد من خطر تطوير دول جديدة للأسلحة النووية.

إقرأ أيضاً: هل ينجو الأسد من حلفائه؟

اليوم يمثل التوتر بين روسيا من جهة والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى الخطر الأكبر، ومنذ انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية، تظهر الترسانة النووية بين الحين والآخر، حيث يهدد الكرملين بضربات نووية تكتيكية أو واسعة لإنهاء الحرب، وفي ذات الوقت يعزز الناتو من قواته وترسانته النووية في أوروبا الشرقية. الأمر الذي يجعل من سيناريو الحرب النووية أمرًا رائجًا للحديث عنه دائمًا، فالتهديد لم يخرج من روسيا فقط، إنما ظهر من عدة دول، فقد سبق للرئيس الفرنسي أن أعلن بشكل علني أن بلاده مستعدة لاستخدام ترسانتها النووية لحماية أمن أوروبا، وهذه التصريحات ما زالت تثير المخاوف بشكل كبير من اندلاع حرب نووية. ويمكن أن يحدث ذلك من خلال سيناريو يبدأ بتصاعد التوترات من خلال تبادل الاتهامات بين أميركا وروسيا حول تحركات روسية عسكرية استفزازية على الحدود الأوكرانية، ما يستدعي إنزال قوات الناتو في بولندا ودول البلطيق، وبهذا تتفاقم الأزمة وتحصل اشتباكات في أوكرانيا بين الناتو والقوات الروسية. يؤدي هذا إلى تبادل التحذيرات بين واشنطن وموسكو عبر القنوات الدبلوماسية والعامة، ويتم رفع حالة التأهب النووي في كلا البلدين إلى مستوى غير مسبوق منذ الحرب الباردة، ونتيجة شعور موسكو بالخطر يقرر الرئيس الروسي تنفيذ ضربة نووية تكتيكية على القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا الشرقية، ليقوم الرئيس الأميركي بإعطاء الأوامر بالرد على هذه الضربة باستخدام السلاح النووي التكتيكي على القوات الروسية. يتطور الأمر بعد ذلك إلى إطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات لتستهدف المدن الرئيسة في كلا البلدين، وتمتد هذه الضربات إلى المدن الكبرى في أوروبا، ما يسبب انهيار البنية التحتية، وتشتعل الحرائق، وتبدأ المواد الإشعاعية في تلويث الهواء والماء.

إقرأ أيضاً: قصة الاختراقات الأمنية للحرس الثوري وحزب الله

عند انتهاء تلك الضربات، يتم التعامل مع العواقب الكارثية لها، إذ يبدأ الناجون في التعامل مع عواقب الدمار النووي حيث يعاني الناس من الحروق والأمراض الناتجة عن التلوث الإشعاعي، وتنخفض درجات الحرارة في العالم نتيجة الشتاء النووي، ما يؤدي إلى مجاعات واسعة النطاق، مما يستدعي عقد اجتماع عاجل للأمم المتحدة من الدول الناجية لتحديد الآليات التي يجب العمل عليها في التعامل مع الكارثة الإنسانية والبيئية التي حلت بالعالم، ويتم تشكيل فرق إنقاذ دولية لتقديم المساعدة للناجين وإعادة بناء المجتمع الدولي، لينتهي السيناريو بأهمية التعاون الدولي لتجنب الحروب النووية.

إقرأ أيضاً: قراءة متأنية في الضربة الإسرائيلية الأخيرة لإيران

في الختام، نجد أن الدروس المستخلصة من هذا السيناريو هي أن الأسلحة النووية تمثل تهديدًا وجوديًا للبشرية، وأن الجهود يجب أن تستمر في منع انتشارها وتعزيز هذه الأسلحة لضمان مستقبل آمن ومستقر للبشرية. ومما هو مؤكد عبر السنوات القادمة في ظل اتساع الترسانة النووية أن احتمال اندلاع حرب نووية كبرى ضعيف جدًا لأن الجميع يعلم أن الحرب ستكون خاسرة للجميع، ولا يمكن أن يخرج منها منتصر، وستستمر التصريحات والتهديدات، لكن الأحداث التاريخية وحتى الحالية تؤكد أن الأسلحة النووية تحولت من أداة للحروب إلى أداة لاستعراض القوى وتكافؤها، ولهذا قد يهدد الجميع ويحرك أسلحته ويظهرها للعالم، لكنه يعرف أنه سيكون الخاسر الأول. فالسلاح النووي استخدم في التاريخ لمرة واحدة لا يزال درسًا للكوكب كله، ولهذا وبعد كل هذه الاستنتاجات والدروس يمكن القول إنَّ الحرب النووية بعيدة إلا إذا فعلها مجنون ما يريد تدمير كل الكوكب.