في علم الاستخبارات، هناك قواعد ثابتة لا يمكن تغييرها، ومن هذه القواعد ما يتعلق باختراق الهياكل التنظيمية والعسكرية والأمنية للعدو المفترض. تعتبر هذه المهمة من أصعب وأعقد المهام التي تواجه أجهزة الاستخبارات في العالم. فالأمر يحتاج إلى وقت طويل وجهد حثيث ومتواصل على مدار الساعة لدراسة البنية الداخلية لتلك المؤسسات، وخاصة الميليشيات والجماعات الخارجة عن إطار الدولة. كما تحتاج إلى وسائل متعددة لدراسة مفصلة وعميقة لبعض الشخصيات المؤثرة في تلك الأجسام لإقناعها بالعمل كمخبر أو عميل، أو كما هو متعارف عليه "متعاون". ولهذا، تُجند أجهزة المخابرات كل إمكانياتها لجمع المعلومات عن تلك الشخصيات، متابعتها، وإيجاد مدخل للسيطرة الأولية عليها لربطها بهذا الجهاز أو ذاك. يعتمد ذلك على أسلوبين لا ثالث لهما: الأول "الترغيب"، ويتمثل في دراسة دقيقة للصفات الشخصية للشخصية المستهدفة، واستغلال إحدى تلك الصفات كحبها للمال أو شعورها بالظلم قياسًا بإمكانياتها، أو حبها للسلطة. ثم تُنمى تلك الصفات عبر إغراقها بالأموال الطائلة بشكل غير مباشر، ومن ثم إقناع الشخص بالعمل لصالح المشغل، خدمةً لبلده ومستقبله، من خلال استخدام عملية غسيل الدماغ. وفي حال كان لديه طموح في اعتلاء المناصب ويعتبر نفسه مظلومًا في وظيفته، يتم تقديم الوعود له بمستقبل أفضل ومناصب أكبر. هذا الأسلوب يعتمد في تجنيد قادة وأفراد التنظيمات والميليشيات الخارجة عن إطار الدولة.

الأسلوب الثاني هو "الترهيب"، الذي يعتمد على اختراق البيت الداخلي للمستهدف وإغراقه في قضايا أخلاقية وفساد مالي، ثم استخدام هذه القضايا للضغط عليه في البداية لتقديم معلومات بسيطة، ثم التدرج في إجباره على تقديم معلومات دقيقة عن الكيان الذي يعمل فيه، وتهديده بفضح أمره أمام رؤسائه. لا شك أن هناك طرقًا كثيرة ومعقدة لتجنيد العملاء، تخضع آليات تلك الطرق لكل حالة على حدة، وقد لا تتشابه حالة تجنيد مع أخرى. ولهذا، فضلت أن أورد الطرق الرئيسية المتبعة في أغلب أجهزة المخابرات لتجنيد العملاء.

أعتقد أن ما حصل في عملية اختراق حزب الله والميليشيات الإيرانية والحرس الثوري الإيراني لم يخرج عن هذا الإطار الذي تحدثت عنه. هنا لا بدَّ أن نعرف بأن القاسم المشترك بين تلك التنظيمات هو وجودها في سورية وعلاقتها الوثيقة في فترة زمنية طويلة نسبيًا مع أجهزة مخابرات بشار الأسد. وهذا أتاح الفرصة لبشار الأسد لاستخدام تلك التنظيمات لتكون إحدى الأوراق الهامة لبقائه في السلطة. ويمكن القول إن الأسد نجح في اختراق تلك التنظيمات وربط معظمها مع الموساد، حيث كانت البداية من الشهر الثالث عام 2013 عندما كانت الولايات المتحدة الأميركية تتحضر لاتخاذ قرار بإسقاط الأسد ونظامه. إذ ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن للطلب من إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بقاء الأسد في السلطة، بالرغم من فقدان الأخير السيطرة على معظم الأراضي السورية ومحاصرته من قبل الجيش الحر في دمشق. وكان من ضمن الأسباب التي أدت إلى بقاء الأسد في السلطة وعود الأخير باختراق كل الميليشيات العاملة على الأراضي السورية، بما فيها الحرس الثوري الإيراني.

إقرأ أيضاً: مستقبل الصراع في البحر الأحمر

من هنا، بدأت مخابرات الأسد العمل ليل نهار لاختراق الميليشيات الإيرانية وحزب الله والحرس الثوري الإيراني. وجاء الاختراق بطرق كلاسيكية، اعتمد في جلّه على إغراق الكثير من قادة الصف الأول والثاني، وحتى الصف الثالث ومن حولهم من قيادات تلك الميليشيات بالمال الاستخباراتي، من خلال تقديم الهدايا النفيسة للقادة في مناسبات محددة، وإغراقهم بالأموال الطائلة بحجة المساعدة في تحقيق مستقبل جميل لهم ولأطفالهم، مستغلين الإمكانيات المادية القليلة لهؤلاء، خاصة قادة الحرس الثوري الإيراني ومن حولهم. في المقابل، استطاعت أجهزة مخابرات الأسد كعادتها ممارسة أساليب لا أخلاقية للسيطرة على معظم القادة السياسيين والعسكريين الذين لم تستطع إغراقهم بالمال. هذا ما كانت تستخدمه هذه الأجهزة طوال عقود كورقة في الترويض والسيطرة على الكثير من الشخصيات السورية، خاصة من يتبوأ مراكز قيادية حساسة، سواء كانت عسكرية أو أمنية أو سياسية.

إقرأ أيضاً: الحرب السيبرانية الإسرائيلية على أذرع إيران

نتيجة تلك المغريات الترغيبية والترهيبية، استطاعت مخابرات الأسد، بإدارة من خلف الكواليس لجهاز الموساد الإسرائيلي، السيطرة على الكثير من تلك القيادات. لتصبح لدى إسرائيل قاعدة بيانات تحوي معلومات مفصلة ودقيقة عنهم وعن وحداتهم وعن قياداتهم ومن حولهم. تم معالجة هذه المعلومات بأحدث التقنيات الإلكترونية عبر الذكاء الصناعي، لتُستخدم ضد تلك الميليشيات وقادتها فيما يسمى "الحرب السيبرانية"، وليصبح قادة تلك الميليشيات تحت أنظار الإسرائيليين على مدار الساعة. هذا يفسر نجاح العمليات التي تقوم بها إسرائيل ضد تلك الميليشيات، سواء في استهداف القادة أو المنشآت الحيوية، كمستودعات الأسلحة ومراكز البحوث العلمية ومقرات القيادة. وصلت الأمور إلى حد اغتيال الصف الأول من قادة ميليشيا حزب الله اللبناني، وعلى رأسهم حسن نصر الله وأركانه، والعديد من قادة الحرس الثوري الإيراني في سورية. ومن بينهم القادة الميدانيون العسكريون والأمنيون في سورية ولبنان، الذين تم قتلهم عند استهداف القنصلية الإيرانية في قلب العاصمة دمشق.

إقرأ أيضاً: هل ينجو الأسد من حلفائه؟

ما حدث ويحدث حاليًا للميليشيات الإيرانية في سورية ولبنان، من قتل منظم ودقيق لقادتهم وتدمير ممنهج لمقراتهم ومستودعات أسلحتهم ومنصات إطلاق صواريخهم، لا يدل فقط على قوة إسرائيل السيبرانية والعسكرية والأمنية، بل يدل أيضًا على حجم الاختراقات التي بنت عليها إسرائيل قاعدة البيانات الأمنية التي تمتلكها. هذه القاعدة بُنيت من خلال التعاون الوثيق بين مخابرات الأسد وإسرائيل. لولا خدمات مخابرات الأسد، لما حققت إسرائيل تلك النجاحات في زمن قياسي. هذا يؤكد لنا، نحن السوريين وللعرب وللعالم، أن الأسد لا يمكن الوثوق به مطلقًا. إذا تجاوزنا نظريًا ما فعله بالشعب السوري من قتل وتهجير لثلثي السكان الذي يُفترض أنه رئيسهم، فلا يمكن تبرير غدره بمن ساعده وقدم الدماء والمال للدفاع عنه وعن نظامه، وكان أحد العوامل الرئيسية لبقائه في السلطة. الغدر شيمة آل الأسد، الأب والابن. وليس بعيدًا عن ذاكرتنا ما فعله حافظ الأسد بشقيقه رفعت الأسد في ثمانينيَّات القرن المنصرم عندما حاول الأخير الانقلاب عليه. وليس آخرًا الخلافات الحادة بين بشار الأسد وأخيه ماهر حول النفوذ داخل السلطة. المحاولة الأخيرة من قبل إسرائيل لاستهداف إحدى المزارع التي يتواجد فيها ماهر تمت بمباركة من شقيقه، ليكرر ما فعله والده حافظ بعمه رفعت، ليتخلص من رجل إيران القوي في سورية وينفرد بالسلطة كما يحلم، أو كما يُخطط له. فالسلطة في عهد آل الأسد خط أحمر لا يمكن تجاوزه. من يفكر في تجاوزه عليه دفع الثمن غاليًا، حتى لو كان من الدائرة الضيقة في الدولة الأسدية العميقة.