قبل أيام، اجتمع التحالف العالمي ضد داعش الذي تشارك فيه غالبية دول العالم، ويمكن اعتبار هذا التحالف العالمي الأكثر نجاحاً في العشر سنوات الماضية. إرادة سياسية أممية والتزام عسكري أديا إلى هزيمة داعش، بعد أن احتلت مدينة من أكثر المدن عراقة في التاريخ العربي، مدينة الموصل في العراق.

الدرس الأول المستفاد من الحرب على داعش هو ألا ننتظر حتى يتشكل كيان مثل داعش، كالورم الخبيث الذي يجب استئصاله، ولكن لا ضمانة بأنه لن يعود.

المشهد اليوم على خريطة العالم العربي الكبير هو نزيف مستمر، في غزة ولبنان والسودان وغيرها، وإن لم يتوقف، فستخلق قاعدة جماهيرية على امتداد بلاد المنطقة أكثر تطرفاً مما عهدنا.

هؤلاء الشباب الذين فقدوا الأمل في حياة أفضل يجمعهم قاسم مشترك وهو إيمانهم بنفس الفكر الداعشي الذي رأينا كيف بإمكانه الانتشار في غفلة من العالم.

علينا ألا ننسى كيف استباح الداعشيون الموصل، وكانوا يسجلون ويوثقون وحشيتهم لتصل الرسالة إلى كل شعوب الأرض كيف يتم قتل كرامة الإنسان. وفي كل فيديو، تزيد داعش من جرعة الوحشية في التعذيب والتنكيل والقتل وتزرع الخوف في قلوب الناس.

لا تلتئم جروح الحروب مع توقف إطلاق الرصاص، فبعد صمت البنادق يبدأ التحقق من حجم الدمار، وهو الجانب المرئي من الصورة، ويمكن التعامل معه مباشرة. وعملياً، بعد حصر كل الأضرار المادية، توضع الخطط لإعادة الإعمار، شريطة الاتفاق على المسار السياسي.

ولكن الجانب غير المرئي هو الأخطر، وهذا الجانب الخفي لا يمكن حتى قياسه لتقدير حجم تأثيره على الشعوب التي تعيش تحت الحروب، وهو يتمثل في المآسي والجروح النفسية التي تتركها الحروب، خصوصاً على الأطفال؛ جروح غائرة في الذاكرة وتحتاج لسنوات طويلة لتندمل.

يرى البعض أنه ليس من السهل على الشباب الذين خاضوا تجارب الحروب المريرة أن ينقذوا أنفسهم، وبالتالي لن يستطيعوا إنقاذ بلادهم. ولعل تاريخ لبنان منذ اندلاع حربه الأهلية قبل نصف قرن إلى الآن هو دليل على صحة من يعتقدون ذلك.

لسان الحال اليوم يقول لكل لبناني "إن أردت أن تنجو أنت ومن تحب فعليك أن تغادر لبنان وتبدأ حياة جديدة، في أي أرض من بقاع الأرض، بعيداً عن أرزك وزيتونك وكل جميل تحبه في لبنان".

إحدى المآسي التي سمعتها منذ سنوات عن الحرب الأهلية، وكأنني سمعتها البارحة، هي لطفلة لبنانية لم تتجاوز سبع سنوات، عندما اضطرت للهروب من لبنان إلى قبرص مع أبيها وأمها وإخوتها مختبئين في باخرة بضائع.

تقول محدثتي عن تجربتها: "ما زلت أشعر برعشة الخوف في جسدي عندما أسترجع صراخ عمال مرفأ بيروت وهم يحاولون دفعنا للمشي بسرعة لركوب الباخرة، والاختباء في إحدى حاويات تآكلت من الصدأ".

تكمل قائلة: "بداخل الحاوية عتمة تامة، وهناك صوتان فقط، صوت من الخارج وهو صوت القذائف والانفجارات، والصوت الثاني من داخل الحاوية وهو صوت بكاء الأطفال الخائفين".

تمسح دمعة لم تستأذنها وتقول بصوت تخنقه العبرة: "40 سنة مرت منذ خرجت من الحاوية وصوت بكاء الأطفال لا يزال في أذني".

ما الذي يمكن عمله؟ وكيف نستطيع أن نخاطب برسائلنا شعوب العالم لكي ينصتوا لبكاء الأطفال الخائفين في غزة ولبنان والسودان من داخل حاوياتهم المظلمة؟