الناس أجناس وطبائع، مثل أصابع اليد مختلفة الشكل والوظيفة، وهم كأجناس الطير، منهم مفاتيح للخير، ومغاليق للشر، ومنهم مغاليق للخير مفاتيح للشر. والله سبحانه وتعالى، جعل في طبع البشر الاختلاف والتضاد فيما بينهم؛ فهناك أمزجة مستقرة وأخرى متقلبة، وهناك يائسون وغيرهم حالمون، وهناك صالحون وضدهم طالحون، وهناك صادقون وعكسهم متملقون!
حارت العلوم في معرفة أسرار الدماغ وخفاياه الظاهرة والباطنة؛ فلا علماء النفس والاجتماع والإنسان توصَّلوا إلى يقينٍ أبديٍّ عن كينونة هذا المخلوق الغريب؛ في نشأته، وسلوكه، وتفكيره (المشفَّر).
كُتب عن الدماغ الكثير من الكتب والمجلدات، دون الوصول إلى السر الذي يجعله لغزًا محيّرًا، فهو يحتوي على (37) تريليون خلية في الجسم، ومئة مليار خلية عصبية تعمل فيه كألياف مثل الخيوط، حيث تتجدد بمعدل ثلاثمائة مليون مرة في الدقيقة الواحدة بأخرى مستهلكة. ووفقٌا لدراسة أمريكية حديثة نشرت هذا العام بأن سعة الدماغ في نطاق بيتابايت ، مثل شبكة الويب بأكملها .
في الدماغ، يبدأ سر التكوين، ولغز الوجود. وفيه تبدأ ميكانيكية صناعة سلوك الإنسان وانفعالاته وإحساسه وحركته. وتبدأ معها ألغاز فك شفرة الشخصية، واللغات التي يستخدمها للخير والشر، وبناء قدراته الذهنية والانفعالية، إضافة إلى الوظائف البيولوجية.
من الآخر، إن الدماغ هو المتحكم في كامل الجسم (معالجةً ودمجًا وتنسيقًا للمعلومات). وعندما يتضرر الدماغ فأن العقل سيصاب بالعطب، خاصة أنه يمكنه تخزين ما يفوق مليون غيغابايت من البيانات، وهو ما يقدر بنحو 4.7 مليارات كتاب، أو 670 مليون صفحة ويب.
ولقد اختلف الفلاسفة حول علاقة الدماغ بالعقل، وقضية فهم الوعي ومسألة العقل والجسم؛ وذلك لصعوبة شرح كيفية تنفيذ الأنشطة العقلية، مثل: الأفكار والعواطف؛ مما دفع ديكارت وآخرين على الاعتقاد بأن العقل مستقل، إلى حدٍّ ما، عن الدماغ. لكن الأمر اختلف بعد ذلك، فقد ثبت علميّاً وجود علاقة قوية بين نشاط الدماغ والنشاط العقلي، واعتبار الظواهر العقلية في النهاية هي ظواهر (فيزيائية).
ما نراه في الحياة من سلوكيات للبشر هو (تحصيل حاصل لعمليات المخ المعقدة، والذي هو أكبر من الدماغ)؛ حيث الوظائف تتناسل في عمليات كيماوية وفيزيائية عبر فصوص المخ التي تقوم بوظائف ضبط النفس والإدراك والتخطيط والتحرك الحركي والعاطفة واللغة والرؤية، ولتُشكل، في النهاية، شخصيته بالتعاون مع التنشئة الاجتماعية والبيئة الخارجية.
إقرأ أيضاً: ألم وأمل
رباط الكلام، هو أن الدماغ ينشأ كالصفحة البيضاء، نظيفًا من شوائب الشر، وأدران الحياة، ووظيفته تسلُّم المعلومات وتبويبها وتنسيقها حسب رؤية الإنسان وأهدافه المبطنة. لذلك يُصاب دماغُه بأورام خبيثة؛ ورم الشر والكسب والامتلاك، فتبدأ فصوصه بالانجذاب إلى الأفعال المريضة، وتصاب بلوثة نفسية للانتقام والكُرْهِ، والتلذُّذ بعذاب الآخرين بكيمياء السادية.
بدأت أورام الدماغ الاجتماعية تتكاثر في مجتمعنا؛ فصار لدينا: ورمٌ دماغي للنفاق، والانتهازية، والغيبة والنميمة، والكذب، والحسد، والوشاية، وهوس القتل والانتقام. فكم من أفئدةٍ أُدميت، وكم من أكبادٍ اكتأبت وتفتتت، وكم من أبرياء قتلوا، وكم من مظلومين عُذِّبوا، وتهدمت بيوت، وأُشعلت فتن، وتفكَّكت أسر، وزُرِعت أحقاد. صفاتٌ متواليات، ونعوتٌ متتابعات، كل خصلة أشد وأنكى من الأخرى.
إقرأ أيضاً: في بيتنا الذكاء الاصطناعي
ومثلما كثرت الأورام السرطانية بفعل يورانيوم الحروب، أو لقسوة الأنظمة وظلمها للعراقي، فإن (الورم الاجتماعي السرطاني) بدأ يتشكَّل في الدماغ؛ نتيجة نمو خلايا الضعط النفسي لعذابات الحياة التي صنعتها السلطة السياسية على نيران تنُّور السياسة. صار الدماغ العراقي كتلة أورام مركبة، يصعب شفاؤها أو استئصالها طبيًّا، أو بمنظور الحكمة أو العلم أو الرحمة!
صحيح أن الحياة داخلنا حياة جامدة لا حركة فيها، وأن علاقتنا بالآخرين تجعلها أكثر حيوية وديناميكية؛ ولكن كيف تستقيم الأمور وأدمغتنا مصابة بأورام (الكره والحقد والرياء)، ومهووسة بـ (المال الحرام)؛ حيث السرقة والنصب والاحتيال، ومتجاوزة لحق المواطنة والعدل، ومبرمجة على القيل والقال، والقبول بالظلم والذل.
خلاصة الاكتشاف: خير المواهب العقل، وشر المصائب الجهل، واصل الإنسان عقله، وهو إمبراطور المستقبل.
التعليقات