منذ انخراط أذرع إيران، وعلى رأسها حزب الله اللبناني، في المعركة الدائرة في غزة بُعيد العملية الحمساوية الإخوانية في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، لم تتوانَ إسرائيل في التعامل مع هذه الأذرع بطرق مبتكرة وفق استراتيجية أمنية، عسكرية وتقنية مركبة. بالإضافة إلى القصف المركَّز من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي لأهداف نوعية شملت منصات إطلاق الصواريخ التي تستهدف الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومقرات القيادة والسيطرة والتجمعات العسكرية للحزب في مختلف المناطق اللبنانية، طورت إسرائيل أساليبها في التعامل مع الحرس الثوري الإيراني في سورية ولبنان والعراق. فقد استهدفت الكثير من الشخصيات القيادية لتلك الميليشيات المتواجدة على الأراضي السورية واللبنانية بالاعتماد على اصطياد هؤلاء القادة بمساعدة كبيرة من الحرب الإلكترونية التي تسمى الحرب السيبرانية.

لتحقيق الإنجازات التي تُرجمت على أرض الواقع، استخدمت إسرائيل التقنيات الإلكترونية المتقدمة التي تملكها بشكلٍ مثالي، لدرجة أن كافة العمليات التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد قادة محور ما يسمى المقاومة حققت أهدافها بالكامل، ولم يُسجل حتى الآن فشل عملية واحدة من تلك الاستهدافات.

الكثير من المحللين العسكريين والأمنيين والمختصين بالحرب الإلكترونية السيبرانية لم يُفاجأوا بطريقة اصطياد إسرائيل لفرائسها، اعتمادًا على التقدم التكنولوجي الإسرائيلي. ومن المفيد التطرق باختصار إلى آلية عمل القوات الإسرائيلية في الحرب التي تشنها على قادة الحرس الثوري وأذرع إيران في المنطقة. إذ اعتمدت الدولة العبرية على اختراق كوادر الحرس الثوري الإيراني من خلال العديد من الخلايا التي كانت تمدها بالمعلومات الدقيقة والآنية عن تحركات واجتماعات القادة الإيرانيين، خاصة على الأراضي السورية. ولعل أهم تلك الخلايا كانت تعمل في الدائرة الضيقة حول بشار الأسد، وتقودها الصحفية لونا الشبل، المستشارة الصحفية للأسد والقريبة جدًا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي تم اكتشاف خليتها بعد استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، حيث راح ضحيته سبعة من القادة الميدانيين الإيرانيين المسؤولين عن قيادة الأعمال العسكرية والأمنية في سورية ولبنان.

لم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل قامت باختراق كوادر حزب الله اللبناني، وقتلت قياداته بناءً على معلومات مؤكدة من أحد عملائهم المتوغل في هيكلهم التنظيمي. ولعل اعتقال ابن شقيق فؤاد شكر، القائد العسكري للحزب الذي قتلته إسرائيل في منزله، وإعدام ابن أخيه بعد أن ثبت أنه وشى بعمه مقابل مبلغ من المال، خير دليل على حجم الاختراقات داخل الحزب، سواء من كوادره أو من أقرباء قادته.

إقرأ أيضاً: مستقبل الصراع في البحر الأحمر

هذه الاختراقات كانت العامل الحاسم في اتخاذ القرار لتوجيه الطيران الإسرائيلي إلى مكان الهدف المطلوب والتعامل معه باستخدام ذخائر دقيقة، مما جعل استهداف شقة سكنية بعينها دون التأثير على باقي الشقق في المبنى أمرًا متكررًا، وفي كثير من الأحيان اقتصرت الأضرار على غرفة واحدة في تلك الشقة.

جميع هذه الاستهدافات وأساليب تنفيذها تأتي ضمن العمليات العسكرية التي ساعدت فيها التقنية السيبرانية بشكل كبير في تحديد ومتابعة الهدف وتوجيه الصواريخ بدقة. وهذا يمكن اعتباره نجاحًا عسكريًا تقنيًا تم من خلاله استخدام قوة نارية فتاكة محددة لقتل العدو. وإذا اعتبرنا أن تلك العمليات ميدانية بامتياز، فإن ما حدث خلال الأيام الماضية يُعتبر، وفق المفهوم العسكري والاستخباراتي، عملًا غير مسبوق في تاريخ الحروب الحديثة، إذ استُهدفت كوادر حزب الله على مختلف مستوياتهم في وقت واحد، بالإضافة إلى شخصيات إيرانية مثل السفير الإيراني في لبنان، وكوادر أخرى في سورية والعراق، عبر تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكية الخاصة بكوادر الحزب عن بعد، دون الحاجة إلى استخدام أي نوع من القوة النارية. ذهب ضحية هذه العمليات عشرات الأشخاص، بالإضافة إلى إصابة الآلاف من تلك الكوادر بعاهات دائمة، تمثلت في فقدان البعض منهم أعينهم وفقدان آخرين أيديهم، وإصابة البعض الآخر في البطن.

إقرأ أيضاً: ماذا فعل الإسرائيليون في مصياف السورية؟

كل ذلك تم في غضون بضع ثوانٍ، باستخدام تقنية مبتكرة اعتمدت في جزء منها على تفخيخ أجهزة اتصال بدائية كان الحزب قد اشتراها عبر وسطاء من شركة وهمية. والجزء الآخر اعتمد على اختراق ترددات شبكة الاتصال لهذه الأجهزة، وتم إرسال أوامر إلكترونية لتسخين بطارياتها، مما أدى إلى انفجار الحشوة المزروعة فيها.

ختامًا، أعتقد أن الحرب السيبرانية غير المتكافئة التي تشنها إسرائيل على الحرس الثوري الإيراني وأذرعه في المنطقة قد أثبتت فعاليتها مبدئيًا في تحقيق أهدافها دون خسائر بشرية أو مادية. كما حققت سابقة خطيرة في الحروب الحديثة، والتي قد تقلب موازين القوى العسكرية في المنطقة والعالم إذا ما استُخدمت على نطاق واسع.