قبل الاِنتهاء من وقفة المقارنة واختيار عنوانٍ مناسب لها، تذكرتُ موقفاً طريفاً حدث معي بسبب عنوان كتابٍ كان موضوعاً على طاولتي المنزلية، وفحواه أن أحد الأخوة عندما رأى عليها كتاباً للشاعر اللبناني الراحل بسام حجار يحمل عنوان "مديح الخيانة" سارع إلى إصدار الحكم على الكتاب، وبدأ بلعن الخيانة والتقليل من شأن الكاتب الذي ترك مواضيع الدنيا كلها وراح يتحدث عن مناقب الخيانة ويمدح الخِونة، فقلتُ لهُ مهلاً يا صديق في إصدار حكمك على الكاتب والكتاب، لأنك إن قرأت محتوى الكتاب سترى بأن العنوان يعبِّر عن المكتوب ولرأيتَ بأنه يحمل شيئاً من الجاذبية المحببة أيضاً، باعتبار أن الكتاب عن الترجمة الأدبية وخاصةً عملية ترجمة الشعر التي نظر إليها بعض الأدباء بمن فيهم الجاحظ على أنها بمثابة خيانة، وهنا هدأ الضيف من وتيرة الهجوم اللامبرَّر على الكتاب إلى أن عبّر في الأخير عن أسفه قبل الرحيل، وذلك لتسرعه في إعطاء الرأي بما لا يعرفه.

وبناءً على ذلك الموقف، رأيتُ في نهاية كتابة هذه المادة بأن العنوان الغريب وربما المستفز بالنسبة إلى الكثيرين ممن هم على شاكلة ذلك الضيف المتسرع سيكون "في مديح العدو" لأنه قد يكون صادماً، كما أنه بالنسبة إليهم غير مقبول البتّة التحدث عن الجوانب الجيدة في العدو ولو كانت تلك الخصال حقيقية، مع أننا هنا بحق نتحدث عن قيم أو آلية عمل في الحرب هي موجودة ومعمول بها مِن قِبل مَن هو في مقام العدو، ذلك العدو الذي سبق أن استشهد بمصداقيته في الإعلام الحربي بعض الكتاب المشهورين في الوطن العربي.

وفي هذه الوقفة السريعة لا نتخيل السيناريو ولا نخترعه، إنما نتكلم بناءً على ما شاهدناه وتابعناه وخبرنا به في الآونة الأخيرة فيما يتعلق بسلوك هذا العدو، والأمر طبعاً بعيد كل البعد عن متلازمة ستوكهولم وآلية التأقلم مع العدو أو الوصول معه إلى حالة التعاطف؛ إنما دقة عمليات إسرائيل ضد قيادة حزب الله ومواقعه وتحصيناته ومستودعات سلاحه وذخيرته، دفعت الكثير منا إلى مقارنة هجمات ذلك العدو واستهدافاته بآلية عمل من يُحسبون على الأصدقاء إبان هجماتهم على إخوانهم الذين تؤكد نتائج أفعالهم بالنسبة إلى ذلك المقارِن بأن عواقب أفعال الأعداء تستدعي الإعجاب على العكس من ممارسات وأفعال المحسوبين على الأصدقاء في هجماتهم على إخوانهم، نعم على إخوانهم وليس على أعدائهم.

إقرأ أيضاً: الامتثال لأوامر المعتدي

ففي سورية على سبيل المثال، ومنذ عام 2011، فإنَّ معظم هجمات قوات النظام السوري وحلفائه والميليشيات العاملة بأمرته على مناطق نفوذ معارضيه لم تكن وإلى الآن تؤدي على الأغلب إلاَّ لقتل المدنيين وتدمير ممتلكاتهم كما تسبَّبت وتتسبب الاعتداءات تلك بتشريد وتهجير مَن لم يمت في العمليات العدوانية، علماً أنهم عند القصف الأرضي والغارات الجوية يدَّعون بأنهم يدكون أوكار المسلحين، بينما عملياً وعلى أرض الواقع فمعظم الضحايا هم مدنيون عُزّل، لأنه بخصوص إصابة الأهداف فأصلاً كل الهجمات بالبراميل المتفجرة وقذائف الهاون والقصف المدفعي لا تمتُّ للدقة بصلة، وعادةً المدنيون هم ضحايا الهجمات بكل تلك الأسلحة العشوائية إبان سقوطها على الأرض.

وبديهي عندما نتحدث عن النظام ها هنا، فلا يعني هذا بأننا نبرئ ساحة غيره من عشوائية القصف والرمي، أو التصور بأن من يستهدفون مناطق نفوذ النظام هم أفضل حالاً منه في عمليات القصف والهجمات، بل إنَّ الطرفين على سويةٍ واحدة في القصف العشوائي الذي يتسبَّب بإزهاق أرواح المدنيين، بالرغم من أن المقارنة غير عادلة، طالما أن النظام لديه أسلحة أكثر دقةً وأكثر قوةً من أسلحتهم، ويمتلك أضعاف ما تمتلكه القوات الأخرى في البلد.

إقرأ أيضاً: تفعيل ما تبقى من الطائف

ولكن اللافت في الأمر هو أنه حتى الدولة التركية التي تمتلك ترسانة عسكرية حديثة وأسلحة متطورة جداً مقارنةً بالتي لدى نظام الأسد أو لدى القوى المناهضة للنظام سواء كانت الفصائل المسلحة أم هيئة تحرير الشام أم قوات قسد، إلاَّ أنها مع ذلك تتصرف مثلهم بالضبط وليس كما تفعل إسرائيل، بالرغم من أن "تركيا هي ثاني أكبر زبون للسلاح والتقنيات العسكرية الإسرائيلية الصنع بعد الهند، وبينهما اتفاقيات عسكرية ومجموعة أبحاث استراتيجية مشتركة على حدّ وصف دودون سوسليك، المتحدث باسم شركة (AIA)، إحدى كبرى شركات الصناعات العسكرية في إسرائيل" وفق ما يشير إلى ذلك الكاتب الأردني خالد بشير، حيث أنها بدلاً من أن تستهدف بهجماتها في الأيام الأخيرة قيادة حزب العمال الكردستاني PKK في قنديل مباشرةً كما فعلت إسرائيل مع قادة حركة حماس وحزب الله، تركت معاقل قيادة قنديل التي كانت وراء العملية التي استهدفت مجمع شركة صناعات الطيران والفضاء التركية "توساش" التي أدت إلى مقتل 5 أشخاص وإصابة 22 آخرين، وراحت تستهدف بكل ما أوتيت من قوةٍ جوية وقصفٍ مدفعي مناطق نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي في سورية، فتسبَّبت الهجمات الأخيرة حسب نشطاء محليين بقتل أكثر من عشرين مدنياً وسقوط عشرات الجرحى وتدمير البنية التحتية للمنطقة.

إقرأ أيضاً: مسارُ القطعانِ في السماء

كما أن ما يميز قوات العدو الإسرائيلي عن القوات الصديقة هو أنها قبل استهداف أي نقطة عسكرية مقامة وسط المدنيين تحذِّر الأهالي قبل استهدافها، وتطالب المدنيين القاطنين بجوار تلك النقطة بالابتعاد عنها، وقد رأينا في الهجمات الأخيرة على مواقع حزب الله في لبنان كيف حدَّدت إسرائيل مسبقاً الأماكن التي ستقصفها لاحقاً، ودعت الأهالي إلى الابتعاد عن محيط النقاط والأبنية المذكورة قدر المستطاع للتقليل من الخسائر البشرية في صفوف المدنيين، بينما في المقابل، فإنَّ القوات الصديقة المتصارعة في سورية لم يسبق لأيٍّ منها أن راعت ظروف الأهالي أو حذَّرتهم أو طالبتهم بالابتعاد عن القطعات العسكرية المستهدفة أو عن النقاط التي ستقصفها تلك الجهة لكي يبتعد عنها المدنيون، إنما كانت استهدافات الأصدقاء على الأصدقاء أو هجمات أبناء الدين الواحد أو غارات الأخوة على الأخوة كلها تأتي بغتةً ودون سابق إنذار، وذلك بخلاف ما يفعله العدو الإسرائيلي بأعدائه!