التناقض السياسي في بعض مواقف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية يثير الدهشة. فكيف تعارض على مدار عام السابع من تشرين الأول (أكتوبر) ونتائجه وتداعياته الكارثية على الشعب الفلسطيني بالمطلق، ومن ثم تنعى من قام به؟

وهنا يُطرح سؤال جوهري: لماذا خطابان، أو لماذا تم تصدير موقفين متناقضين؟ هل السياسة تتقدم على الوطنية، أم الأصل أن تُكرس الوطنية دوما على رأس هرم السياسة في اتخاذ المواقف؟

قبل الإجابة عما سبق، يتبنى اليوم الشباب الفلسطينيون الواعون - وهم طبقة أصبح صوتها عاليا ووجودها محسوساً بفضل مواقع التواصل الاجتماعي - مواقف متشددة تجاه بعض ما يوصف بالمحرمات الفلسطينية، داعين - أي الشباب - لكسر هذه المحرمات وتجاوزها بالثقافة النضالية الفلسطينية. فلا يعقل أن تبقى فلسطين وشعبها أسرى لبعض الأفكار الشاذة الدخيلة على الحالة الوطنية الفلسطينية، والتي تسببت في إضعاف الموقف السياسي الفلسطيني بالمحصلة.

على مدار سنوات انقلاب حماس في قطاع غزة، سعت المنظمة وذراعها التنفيذية داخل الوطن، السلطة الفلسطينية، وعمودها الفقري، حركة فتح، لترميم آثار "الجرم الحمساوي" من خلال جولات مصالحة عابرة لعواصم دولية وعربية. مصالحة هدفت في مقامها الأول إلى وقف التدهور الذي تجر حماس به الحالة الفلسطينية، خاصة أنَّ مقاربتها في القطاع خلال السبعة عشر عاماً حملت تخبطاً سياسياً بين خوض الحروب وإقرار هدن وتعايش مع احتلال يدخل أموالاً عبر حقائب لإبقاء الانقسام الفلسطيني سائداً. ليأتي اليوم المشؤوم ويُدمر القطاع فوق رأس الغزيين الذين باتوا اليوم بين شهيد وجريح ومفقود ونازح، كل ذلك دون تحقيق أهداف هذه المقامرة والمغامرة.

المصلحة الوطنية الفلسطينية تتطلب نموذجاً جديداً في التعاطي مع حركة حماس، قائماً على إخراجها من الحالة الفلسطينية بعد محاسبتها، خاصة أننا لن نتعامل مع حماس واحدة، بل هناك الآن خمس "حماسات"؛ حماس خليل الحية (التيار الإيراني)، حماس خالد مشعل (التيار الإخواني)، حماس زاهر جبارين (تيار الضفة)، حماس نزار عوض الله (التيار البديل عن السنوار في غزة)، وحماس محمد درويش (دوره يقتصر على حفظ توازنات الصراع داخل الحركة).

مجدداً، سياسياً يمكن احتواء حماس، لكن وطنياً يجب محاسبتها؛ محاسبتها على كل هذا العبث العسكري الذي أعاد القضية عقوداً إلى الوراء، محاسبتها على رهن القرار الفلسطيني وفق أجندات إقليمية تاجرت بالدم والحلم والمستقبل الفلسطيني، محاسبتها والسعي لتقليص وجودها على الساحة السياسية الفلسطينية، وعدم التماهي مع ما تريد، أو مكافأتها؛ فلا يعقل أن يستمر باب المصالحة مفتوحاً لتحاول الحركة التسلل منه لإعادة إنتاج نفسها على الساحة الفلسطينية، ولا يعقل الرضوخ بين ثنايا هذا الحوار لإيجاد صيغة تحت عناوين تجاوز العقبات التي تضعها حماس لإبقاء نوع من نفوذها داخل القطاع، والذي أصبح اليوم يشكل عائقاً أمام إعانة الشعب وإغاثته.

إقرأ أيضاً: بدء الانحسار الإيراني في الشرق الأوسط

في جزئية أخرى لا تقلّ خطورة عما سبق، لا يعقل أن يُرهن مستقبل مدينة كاملة وسكانها أو مستقبل قرية وقاطنيها في مناطق الضفة الغربية بمراهقات واستعراضات بضعة شباب يحملون سلاحاً، يتلقون أموالاً، يظنون أنهم سيحررونها، لا يعقل كل هذا.

أوقفوا التبجح "الحمساوي" وسخف قياداتهم الذين يدعون أنهم لم يفعلوا شيئاً، سدوا آذانكم عن قناة الجزيرة والهراء الذي تبثه، تلمسوا السخط الذي يطفو كلما تحدث قائد في حماس، استمعوا للأصوات والانتقادات الصاخبة، اقرأوا المقالات والتحليلات السياسية التي تضج على صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية، كلها تطالب بتجاوز حماس التي فشلت في ميادين الصراع وطاولات السياسة. على قيادة السلطة والمنظمة الاستماع بجدية لهذه النداءات المتكررة، والتماسك جيداً.. تماماً كما أعادت بناء نفسها ومؤسساتها بعد انتفاضة عام 2000، وإدراك أن الفراغ سيأكل من رصيدها، قبل أن يأتي اليوم لتتحول فيه هذه النداءات إلى مطالب تدعو لتجاوز السلطة الفلسطينية نفسها ومنظمة التحرير الرافضتين الاستماع إلى وجع الشعب وهمومه.

إقرأ أيضاً: حرب الأعمى والبصير في الشرق الأوسط

لن يُقبل بالفوضى بديلاً. على السلطة الفلسطينية تجديد نفسها فهذه فرصتها الحقيقية بمقاييس وطنية فلسطينية بحتة، دون إملاءات أو شروط، وإعادة تقديم نفسها من خلال ضخ دماء جديدة لبناء جسور التواصل والاتصال بين حرسها القديم والأجيال الشابة للحفاظ على الكيانية السياسية، وحماية اتفاق أوسلو، المشروع السياسي الواقعي الفلسطيني الصامد أمام تعقيدات مخططات منظومة اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو، الذي سيعمل على إبقاء الحد الأدنى من حماس ليستمر في خططه بإدامة الانقسام الفلسطيني، بل سيعمل على تغذيته مجددا ليتهرب من استحقاقات العملية السياسية.