الاختراق الإسرائيلي المثير للأجهزة الأمنية الإيرانية لم يعد مسألة تكهنات منذ توالي عمليات الاغتيال الكبيرة التي نفذتها إسرائيل ضد إيران وقادة الأذرع الميليشياوية الإرهابية الموالية لها في الشرق الأوسط. ولكن أن يأتي التأكيد من مسؤول إيراني بحجم الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، فهذا ينطوي على دلالات كبرى، ويستحق وقفة لإعادة التفكير في مجمل الصورة سواء داخل إيران أو خارجها. إذ أن هذا الاعتراف اللافت لا يؤكد فقط تكهنات ظلت شبه مؤكدة حتى وقت قريب، ولكنه يدعو للتفكير في سلوك النظام الإيراني وفقاً لما هو واقع بالفعل.
تبدأ قصة اعتراف نجاد من مقابلته مع شبكة "سي إن إن تورك"، حيث كشف أن طهران أسست وحدة استخباراتية مهمتها إحباط خطط جهاز الموساد الإسرائيلي، ثم تبين في وقت لاحق أن من أُسندت إليه رئاسة هذه الوحدة هو أحد عملاء الموساد! هذه الرواية تبدو أقرب إلى الخيال، ولو بُنِيَ عليها عمل درامي، لكان مؤلفه متهمًا بالخيال الفضفاض والتلاعب بعقول الجمهور، ولكن الحقيقة أن هذا هو ما حدث في إيران، ليؤكد أن الحقيقة تكون أحياناً أغرب من الخيال.
الأغرب مما سبق أن رئاسة هذه الوحدة لم تكن العمل الوحيد للموساد، بل إن الوحدة الوليدة ضمت أيضاً عشرين عميلاً آخرين تعاونوا في تنفيذ عملية سرقة ملفات الوثائق النووية الإيرانية (هل تذكرونها؟) التي جرت في عام 2018، والتي اعترفت بها إيران على لسان الرئيس السابق حسن روحاني في خطاب رسمي، قال فيه إن الإسرائيليين سحبوا الأسرار النووية من البلاد وأعطوها للرئيس الأميركي السابق ترامب، الذي انسحب بدوره من الاتفاق النووي. وكان وزير الخارجية الإيراني الحالي (وكان وقتها يقود مفاوضات إيران النووية) يصف الموضوع بأنه "مسرحية صبيانية للغاية وسخيفة"، بينما كان مبعوث إيران في الأمم المتحدة علي رضا ميريوسفي يقول: "إن الادعاء بأن إيران قد تركت هذه المعلومات الحساسة في مستودع مهجور على أطراف العاصمة طهران لا معنى له بصورة مثيرة للسخرية... يبدو أنهم يسعون لفبركة مزاعم عجيبة وغريبة كي يقتنع المتلقي الغربي"! ولم تكن هذه العملية الخطيرة هي المهمة الوحيدة لهذا الفريق الذي تولى أيضاً مسؤولية تنفيذ عمليات الاغتيال التي استهدفت عدداً من أبرز العلماء النوويين الإيرانيين في الداخل.
اعتراف نجاد ليس الأول لمسؤول رسمي إيراني سابق، لكنه الأهم، حيث سبق أن اعترف وزير الأمن الإيراني الأسبق علي يونسي عام 2021 بحدوث الاختراق قائلاً: "لقد تسلل الموساد إلى العديد من الدوائر الحكومية في السنوات العشر الماضية، لدرجة أن جميع كبار المسؤولين في البلاد يجب أن يخافوا على حياتهم".
عملية السطو الاستخبارية المذهلة هذه شملت 55 ألف وثيقة وعشرات الأقراص المدمجة التي تحمل أرشيف إيران النووي، والتي اعتبرها رئيس الموساد السابق يوسي كوهين أعظم إنجازات الجهاز على مدى تاريخه؛ حيث فتحت صندوق أسرار البرنامج النووي الإيراني أمام إسرائيل والولايات المتحدة، لكنها لم تكن العملية الأخيرة. إذ بات من المؤكد أن جهاز الموساد الإسرائيلي أثبت احترافيته وخطورته بتوغله داخل دائرة القيادة والسيطرة الإيرانية، وهي دائرة مغلقة ويفترض أنها تضم النخب الأكثر موثوقية لدى قمة النظام، وبالتالي فإن أي حركة للبحث والتحقيق في هذا الاتجاه تتم بحذر شديد للغاية بالنظر إلى حساسية إثارة الشكوك حول أي من عناصر هذه الدائرة المفترض أنها ثقة.
تكمن أهمية وخطورة اعتراف نجاد في أنه يأتي في ذروة سلسلة من العمليات الاستخباراتية الإسرائيلية الناجحة ضد قادة الأذرع الإيرانية الإرهابية، وفي مقدمتهم حسن نصر الله وجميع القادة الميدانيين الكبار لحزب الله الإرهابي. والأهم من ذلك أنه يأتي في لحظة صدام غير مسبوقة بين إسرائيل وإيران، حيث تم تحطيم قواعد اللعبة والخطوط الحمر المتعارف عليها بين الجانبين، وبالتالي يصبح جميع قادة النظام الإيراني بمن فيهم المرشد الأعلى خامنئي نفسه في دائرة الخطر. ولم يعد مستبعداً أن تطال عمليات الاغتيال الإسرائيلية المتواصلة أيّاً من قادة النظام الإيراني في ظل حالة الانكشاف الأمني غير المسبوقة للأنظمة الأمنية الإيرانية. وهي حالة استثنائية بالنسبة للدول والأنظمة، حيث يبدو النظام الإيراني بأكمله داخل دائرة الرصد والتعقب للموساد الإسرائيلي. وهو أمر يثير الخوف والرعب في نفوس قادة النظام الإيراني جميعهم؛ لأن الأمر لا يتعلق بمواجهات عسكرية تخضع لقواعد الحرب والقدرات العملياتية والقتالية لأي طرف، بل إن هناك طرفاً بات تحت السيطرة التامة للآخر، وهناك خطط استهداف جاهزة للتنفيذ بأدواتها الدقيقة، ما يربك من دون شك أي تخطيط إيراني ويضع الجميع في النظام الإيراني في حالة بحث عن أمنهم الشخصي قبل التفكير في أمن إيران أو وكلائها.
اللافت في كل ذلك أن إيران ظلت طيلة السنوات الفائتة تروج لمزاعم وادعاءات حول قدراتها السيبرانية الكبيرة، وتطورها في مجال تكنولوجيا المعلومات، إلى أن سقطت في أول اختبار جاد لهذه الادعاءات، ليتبين للجميع في منطقتنا والعالم عمق الاهتراء والضعف الذي تعانيه المنظومة الأمنية الإيرانية في الداخل والخارج معاً.
أزمة النظام الإيراني، برأيي، تتجاوز فكرة انهيار شبكة الوكلاء الإرهابيين والمرتزقة الذين استثمر فيها النظام الإيراني عشرات المليارات من الدولارات منذ عقود وسنوات طويلة، ولا في انهيار استراتيجية الحرب بالوكالة التي راهن عليها النظام الإيراني لحمايته من السقوط وردع خصومه الاستراتيجيين وتنفيذ مشروعه التوسعي الطائفي. لكنها باتت تكمن بالأساس في ضمان بقاء قادته ورموزه على قيد الحياة وخاصة المرشد الأعلى خامنئي، وضمان استمرارهم في ممارسة عملهم السياسي من دون خوف عليهم من الاغتيال في أي وقت وأي مكان. وهذه بحد ذاتها إحدى أخطر المعضلات، التي تضع النظام الإيراني في حالة خطيرة من التوجس والقلق، بين ما يتعرض له من انكشاف أمني هائل، وعدم القدرة على اتخاذ ما يلزم من إجراءات وتحقيقات لملاحقة شبكات التجسس الإسرائيلية داخل أجهزة النظام الإيراني، لأن الكل ببساطة بات يتشكك في الكل، ولم يعد هناك مجال لثقة مطلقة، لأن الدائرة الأكثر قرباً من قمة هرم النظام الإيراني باتت مخترقة ومكشوفة تماماً لأجهزة الأمن الإسرائيلية، ما يحشر النظام الإيراني في زاوية ضيقة للغاية يصعب عليه الخروج منها سوى بالاستسلام التام، سواء بشكل مباشر أو في إطار ضمني من خلال التسليم بالأمر الواقع وتجميد ما يسميه بمحور المقاومة، أو بعمل عسكري انتحاري متهور يعيد خلط الأوراق ويدفع طرفي الصراع للبحث عن مخرج آمن لهما.
التعليقات