إذا سلمنا أمرنا لرأي الباحث المشبع بأسباب التروي أو الناظر في تاريخ الثورات بمنظار الموضوعية الصرفة بعيداً عن رؤية الخائب المصدوم بما آلت إليه الأحوال في خواتيم الانتفاضات الجماهيرية والثورات المسلحة، خصوصاً ذلك المطوق بالقنوط لما شهده بأم العين كيف ناهضت الوقائع الميدانية اللاحقة أسراب الأحلام الوردية المنسوجة برومانسية أخاذة لمعظم المنتفضين والثائرين قبيل الانطلاق، وبناءً على قراءته الهادئة، آمن المذهولُ بأنها قليلة هي الثورات التي حققت غايات الشعب الثائر بالسرعة المطلوبة، ليأخذه ويأخذنا معه وجهة النظر تلك إلى شط التصور بأن التغيير المنشود والتقدم للأمام بعد التفجير العام في أي بقعة مبتلاة بالطغيان عادة ما يكون بطيئاً جداً، خاصةً لدى الشعوب المشبعة بالأفكار الدينية والمكبلة بالعصبيات المجتمعية، وبالتالي أن الواقع الجديد غالباً ما يكون صادماً للكثير ممن كانوا يتمنون رؤية ذواتهم في المستقبل، بينما عملياً رأوا أنفسهم وهم نحو الوراء سائرون، إذ أنهم تراجعوا إلى الخلف ليس كما يفعل العداء فيتراجع بضعة خطوات لكي ينطلق بخطوات أوسع وبسرعة أكبر للأمام، إنما تقهقروا وغاصوا في أوحال الحاضر المشدود إلى وشائج الماضي الذي لا يعرفون السبيل المناسب للفكاك من تلابيبه.
وصحيح أنَّ بعض الثورات قد أخفقت في الإطاحة بالحكم وفشلت في إسقاط الحاكم، ولم يستطع أبناؤها هدم قلاع السلطة أو تغيير الأوضاع السياسية في البلد، إلا أنها على الأقل استطاعت أن تقوم بتغيير محمود في ركائز النظام الاقتصادي أو في البنية الاجتماعية والقيم الثقافية السائدة في البلد، كما حدث في ثورات الدول الأوروبية التي أحدثت تغييرات جمة في بنية المجتمعات وعقلية أبنائها قبيل الإطاحة بالسلطات الحاكمة فيما بعد. بينما الشيء اللافت في سوريا هو أن بعض القيم المجتمعية المتكلسة بقيت على حالها ليس عند السلطة الحاكمة فحسب، إنما كذلك الأمر عند الذين ثاروا على السلطة أيضاً، بل وحتى لدى الذين اختاروا خطاً ثالثاً بقيت تلك المكبلات المجتمعية المتوارثة كما هي، وبدلاً من العمل على خلخلة أركان تلك الأواصر المجبولة بمياه الركود، تم النفخ فيها وترميم خللها، وطبعاً ليس حباً بها إنما حباً باستخدامها في أوقات الشدة من قبل أصحاب النفوذ والسلطان.
إذ أنَّ مختلف أطراف الصراع في البلد ما تزال متمسكة بتلك الأجسام بدلاً من المساهمة في تفكيكها أو على الأقل تركها تتجزأ، وتضمحل وتتلاشى من تلقاء ذاتها، هذا بالرغم من أنَّ الأطراف المعنية ذاتها بينها من الاختلافات أضعاف ما قد يجمعها، وكان من المفروض أن يكون هناك تفاوت واضح وتعارض كبير فيما بينها بخصوص القيم العشائرية المعتصمة بأذيال الماضي، طالما أنَّ الخلفيات الفكرية والثقافية مختلفة إلى حد كبير لدى الأطراف المتناحرة. إلا أنَّ المعاين لوضع البلد بعد 13 سنة من تفجير الأوضاع يلاحظ كأن ثمة توافقاً ضمنياً بين الأطراف الثلاثة على التمسك بالقيم العشائرية البالية التي من المفروض أن مفعولها العملي والنظري يكون في حكم المنتهي بما أن مؤسسات الدولة هي البديل الحقيقي عن تلك التجمهرات البشرية.
إقرأ أيضاً: فعاليتكَ تُغيظ المتكلسين
ودليل ذلك هو التعامل الرسمي والفعلي مع تلك الأطر والروابط من قبل سلطات الجهات الثلاثة التي لها مناطق نفوذ خاصة بها في سوريا. بل ويشعر المتابع وكأن ثمة احتفاء بتلك الأطر من قبل مسؤولي السلطات الثلاثة، منها على سبيل المثال حزب الاتحاد الديمقراطي صاحب التوجه اليساري الصرف الذي يدعي محاربة تراكمات التخلف والرجعية ويناهض في أدبياته القيم المجتمعية البالية. ومع ذلك، نرى الإدارة الذاتية تهيئ الأجواء لتلك الكتل الدالة على الغابر وتتعامل معها الإدارة هناك وكأن تلك الحشود البشرية بمثابة أحزاب سياسية لها برامج واضحة ونظم خاصة بها وملتزمة بالإرشادات والتوجيهات وتعليمات النظام الداخلي. وقد شارك كبار مسؤولي الإدارة الذاتية وعلى رأسهم مظلوم عبدي (القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية) في 25 من شهر أيار (مايو) 2024 بملتقى العشائر الذي عقد في ملعب المدينة الرياضية بمدينة الحسكة، ولم تكتفِ الإدارة بالمشاركة فحسب، إنما المؤتمر برمته كان برعاية الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا ومجلس سوريا الديمقراطية.
كذلك الأمر نفسه في المناطق التي يطيب للبعض منا تسميتها بالمناطق المحررة أو المناطق الشمالية الخاضعة للنفوذ التركي أو المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة المركزية في دمشق، إذ بالرغم من أنَّ معظم الشخصيات التي تتصدر المشهد السياسي السوري المعارض كانت تقيم في الدول الغربية، ونهلت من معين الثقافة الغربية، وترعرعت في ظلال قوانين العلمانية، مع ذلك رأينا مسؤولي المعارضة السورية وعلى رأسهم رئيس الائتلاف الوطني السوري هادي البحرة والوفد المرافق له يشاركون في المؤتمر العام الخامس لمجلس القبائل والعشائر السورية الذي عقد يوم الاثنين في الثالث عشر من شهر حزيران (يونيو) 2024 في بلدة سجو قرب مدينة أعزاز السورية بريف حلب.
إقرأ أيضاً: لأجل هذا خرجنا
فيما النظام السوري ومنذ عهد حافظ الأسد وحتى يومنا هذا حريص على المحاصصة العشائرية، بالرغم من أن نظام البعث الحاكم قام منذ تسنمه السلطة بجمع الاشتراكية العربية بالأيديولوجية العلمانية، ولكن مع ذلك لم يحاول النظام إضعاف نفوذ القبائل والعشائر من أجل تقوية نفوذ المؤسسات المدنية، إنما عمل العكس حيث أبقى على تلك الهياكل لاستمرار التبعية، إذ يتم من خلال الانتخابات انتقاء شيوخ العشائر ورجال أعمال ومتنفذين ضمن مؤسسات الدولة السورية بقطاعاتها العامة والخاصة، وما يزال النظام كما كان حاله قبل الثورة يركز في الأرياف وخاصة في الجزيرة السورية على التوجه لشيوخ القبائل والعشائر كونهم يجرون وراءهم حشداً كبيراً من أبناء العشائر والقبائل الذين يوالون شيوخهم على الدوام. لذا فإن انتخابات مجلس الشعب السوري التي جرت في 15 تموز (يوليو) 2024 بيّنت بأن دمشق ما تزال تحتفي بالعشائرية بالرغم من كل سلبياتها، باعتبار أنها تضمن من خلال زعمائها ومشايخها الولاء التام لأفراد تلك العشائر للسلطة الحاكمة.
ويبقى السؤال الذي لا يفارق ذهن كل الذين ما يزال في جوفهم توق للتحرر ليس من عسف السلطة الأمنية والعسكرية المطلقة فحسب، إنما والتخلص كذلك الأمر من الهياكل المرتبطة بالفترات البائدة ممثلة بتلك التكوينات الشعبية التي لم تعد تناسب هذا العصر. ما الحكمة يا ترى من الاحتفاظ بإطار وهيكل عفى عليه الزمن؟ وما السر في حرص الأطراف الثلاثة على التمسك بهذا الإرث الذي كان له أهميته ودوره يوماً ولكن ليس في الوقت الراهن، إنما قبيل نشوء الدولة والمؤسسات كبديل نهائي لها؟ هذا بالرغم من مخاطر الفكر العشائري الذي يعمل على الاستحواذ خاصة مع امتلاكها أسباب القوة والسلاح، ناهيك عن غرس الفوقية وربما العنصرية لدى المنتمين إلى هذه العشيرة وتلك. كما يعمل الفكر العشائري من جهة على إحداث الشرخ بين أبناء المجتمع، ومن جهة أخرى يرسخ المحسوبية وظاهرة تفضيل القريب على كل من عداه من بني البشر حتى ولو كان ذلك القريب جاهلاً أو لصاً أو فاسداً أو مجرماً.
إقرأ أيضاً: الامتثال لأوامر المعتدي
عموماً، قد نجد الكثير ممن يدافعون بقوة عن تلك الأطر الاجتماعية بكونها كانت يوماً البديل عن القانون والمحاكم بغياب المؤسسات الرسمية، والاعتقاد بأنها في الوقت الراهن صمام الأمان في مناطق انتشار أبنائها في زمن الفوضى، وأنها حسب قولهم تساعد على وحدة الصف والكلمة والتمسك بالعادات والتقاليد. علماً أن ذلك الصمام المزعوم سرعان ما ينفجر لأتفه الأسباب من وراء العقلية العشائرية نفسها. فيما نرى في الدول المتقدمة بأن مؤسسات الدولة المختصة هي خير من تحافظ على الفلكلور والثقافة الشعبية والأعراف المجتمعية الإيجابية. ومن الأمثلة الحية في الدول المجاورة التي كانت القبيلة وما تزال وبالاً على أبنائها، والمنظومة العشائرية فيها لم تساعد قط في تحسين الأوضاع فيها كما هو الوضع في دولة العراق منذ أيام سقوط نظام حزب البعث في 2003، بل وما تزال تلك الأطر مشاركة في ترسيخ الوضع المتشظي، وتسهم في تأليب الشارع ليس ضد السلطة الجائرة أو الجهة الفاسدة في الدولة، إنما ضد كل من يخالف مصلحتها أو يقترب من مضاربها، حيث أن العصبية تدعو أبناء العشيرة إلى الدفاع عن الفاسدين والخارجين عن القانون، وتحمي المجرمين عوضاً عن محاسبتهم أو التبرؤ منهم. لذا يطيب لنا هاهنا إيراد ما ذكره الكاتب والمفكر الشيعي العراقي غالب الشابندر في مقابلة على قناة زاغروس بهذا الخصوص والذي قال فيها: "أي شيخ عشيرة حتى ولو بلغ القمة بالتقوى إذا دخل المدينة يفسد المدينة ويخرب المدينة، وإذا ما دخل الحزب يفسد الحزب، وإذا ما دخل الساحة السياسية يفسد الساحة السياسية، مهما كان مقام هذا الشيخ عالياً، وذلك لأنه عصبوي، يفكر عشائرياً، لا يفكر وطنياً، شيخ العشيرة ليس مع الوطن ولا مع القومية، إنما هو مع الجذر العشائري الذي لا يُعتمد عليه في بناء الوطن".
التعليقات