الموقف الغربي منذ أكثر من قرن لم يألُ جهدًا في تعزيز التفرقة بين الدول العربية وبين مكوناتها الداخلية، وخلق النزاعات، ودعم الأحزاب لخلخلة الوحدة الوطنية، وإضعاف العزم السياسي في الدول العربية، لغاية واحدة هي أن تنمو إسرائيل وسط منطقة مثقلة بالديون والصراعات البينية، ودون أن تواجه قوة عربية محيطة يمكنها أن تشكّل تهديدًا كبيرًا لوجودها. ولأهمية مصر وثقلها، لم يتركها الغرب طوال تلك السنين تنعم بالاستقرار والنمو الاقتصادي والسياسي، بل بدأ مبكرًا معها بشغل الذهن السياسي المصري في صراعات داخلية، مع دعم إنشاء تيار الإخوان الذي دعمت بريطانيا إنشاءه وما زالت ترعاه حتى الآن.
وشغلت مصر كذلك عندما نزع الغرب استقرار مجالها الجيوسياسي عبر الربيع العربي، الذي أسقط ليبيا واليمن والسودان، ودفع الغرب بملف حماس إلى إيران. وتتحرك إيران الآن عبر وكلائها في اليمن ولبنان والعراق تحت مرأى ومسمع من أميركا وبريطانيا، لأنَّ هذا التحرك وعمليات التهديد تصب في صالح زعزعة المنطقة وخلخلة الاستقرار العربي. وأدى الدفع بحماس إلى حضن طهران إلى خروجها من حالة التنسيق مع مصر، لتتخذ حماس بعد ذلك قرارات كثيرة أحرجت القاهرة. ثم يعمد الغرب فوق ذلك إلى تهديد الأمن القومي المصري عبر وضع حجر عثرة كبيراً في طريق تدفق الماء عبر نهر النيل، من خلال دعم القرار الإثيوبي القاضي بإقامة سد النهضة وفرض هيبة أديس أبابا على شريان الحياة الرئيسي في مصر، وعلى الأمن المائي والغذائي السوداني والمصري. وآخر ما قام به الغرب هو دفع الحوثيين من خلال بروباغندا دعم غزة إلى تهديد الملاحة في البحر الأحمر. هذا التهديد وضرب السفن التجارية أضر بمصر أولاً، لأنَّ مداخيل قناة السويس تشكل أحد أهم روافد الاقتصاد المصري.
تدرك مصر كل تلك التحديات، وبدأت من اليوم الذي أزاحت فيه الإخوان المسلمين مطية بريطانيا، واستعادت الحاضر والمستقبل. واليوم تخطو مصر خطوات كبيرة نحو تعزيز موقفها السياسي واستعادة صوتها العربي.
إقرأ أيضاً: لماذا يهتم المتابع العربي بالسباق الرئاسي؟
ما قامت به مصر لترميم العلاقات وتصفير المشكلات وإعادة المتانة للعلاقات مع قطر في وقت سابق وتركيا مؤخرًا ينعكس إيجابيًا في وقف النزيف السياسي المصري، الذي كان يستهلكها في دعم استقرار ليبيا وتونس والسودان والصومال، وهي خطوات ذكية وكبيرة ومهمة لصورة وصوت مصر العربية.
في المشهد اليوم، نرى خروج مصر عن صمتها والتحرك سياسيًا وعسكريًا خارج حدودها لأول مرة منذ عقود، وقد أرسلت قوات عسكرية إلى الصومال بقرار مصري. وهذه الخطوة قد لا تلقى ارتياحًا عند إثيوبيا والحوثيين، لكن القاهرة اليوم تتحرك بثقة لرعاية مصالحها.
مصر التي استمرت لعقود تتبنى عقيدة عسكرية دفاعية مقننة، وسعت لكي لا تنجر إلى صراعات سياسية وعسكرية شهدتها الدول العربية، حتى أن وعودها لدعم الموقف العسكري لدول الخليج لم تخرج عن تصريح يتردد "مسافة السكة"، دلالة على القرب والوجود.
إقرأ أيضاً: العنز القرناء والكلب المسعور
هذا التحرك العسكري المصري اليوم خارج حدودها، رغم أن غطاءه الدفاع عن الأمن القومي المصري، إلا أنه كسر العقيدة العسكرية السابقة، ويمكن لهذا التحرك أن يمهد الطريق لمواجهة مع أديس أبابا إذا لم تخفف الأخيرة من لغتها وتصرفها بشكل منفرد في سد النهضة. وقد رأينا لغة القوة في التصريحات التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي وكبار قادة مصر لدعم وحدة الصومال، والتحرك سياسيًا وأمنيًا في هذا الجانب. والموقف المصري يكتسب اليوم ثقلًا أكبر ومكانة أعلى، بإعلان المملكة تأييدها للموقف المصري ودعمها للقرار والخيار المصري. وهذا التوافق بين المملكة ومصر يشكل لب القرار العربي اليوم. ويتم هذا وسط ذهول غربي ملحوظ وصمت متتابع. إنَّ مصر تستمد قوتها من تاريخها وعروبتها وتعزز قوتها من دور المملكة ومكانتها العربية والإسلامية والدولية، ومن دول الخليج وثقلها السياسي والاقتصادي. ومصر دائمًا ثقل سياسي عربي كبير. وهذه القاهرة، ولها من اسمها نصيب.
التعليقات