قبل بضعة أيام، طرق بابي جاري الجنب يرجوني مساعدته وعارضاً عليّ القيام بتدريس ابنه شيئاً ولو يسيراً من قواعد النحو، وأنه لجأ إليّ راجياً مني القيام بتدريسه وإبداء المساعدة في رفع مستواه باللغة العربية، وقد اضطر للجوء إليّ بسبب وضعه المالي المتردي، واستنزاف جزء غير قليل من دخله الشهري لمصروفات الدروس الخصوصية الباهظة.

أحسست بالحرج أولاً، لكنني وافقت أن أقوم بتدريسه بعض المحاضرات العسيرة الفهم تطوّعاً، لأني أعرف الرجل الحريص على أولاده لا يقوى على تحمّل أجور التدريس الخصوصي، مع حرصه الشديد على تطوير مهارات أولاده الدراسية واهتمامه بتفوّقهم بسبب الضائقة المالية التي يعاني منها.

وتساءلت من نفسي: لماذا يحدث كل هذا الإرهاق على أرباب الأسر وتزيد من همومهم هموماً أخر؟ بعد أن تفاقمت هذه الظاهرة المقلقة بشكل ملفت للنظر، إذ أصبحت الأسر الفقيرة والمتوسطة الدخل تعاني وضعاً اقتصادياً صعباً، وأخذت تستنزف الكثير من ميزانية الأسرة جرّاء الدروس الخصوصيَّة، حتى أنَّ قسماً أكبر من العوائل أخذ يقلل من المصاريف الضرورية ومن لقمة الخبز لأجل توفير مبالغ أتعاب تلك الدروس.

كلنا نعرف مدى الانحدار في مستوى التعليم الحاصل في بلاد الرافدين الآن، حيث وصل إلى مستويات معيبة بعد أن كان العراق سبّاقاً معظم الدول العربية وحتى دول آسيا والشرق الأوسط في رقيّه العلمي ومستويات التعليم الأساسي والمتوسط والثانوي والجامعي وما بعده.

رحم الله سنوات دراستنا الجادة، يوم كنا نكتفي بالحصص الدراسية الوافية في الفصل مع القليل من الساعات في التحضير اليومي والمذاكرة في البيت، يوم كان المعلم يمرّ على الطلبة واحداً واحداً ليتأكد بنفسه من استيعاب الدرس الجديد، ويستفهم منا عن أي صعوبة قد تصادفنا لإعادة شرحها، ولست أنسى أبداً معلمينا الأوائل العظام حقاً حين كانوا يجيئون عصراً لإعطائنا دروساً إضافية وإرغامنا على حضورها بلا أي مقابل مادي، فيما لو أحسّوا أن طلابهم لم يستوعبوا الدروس تماماً.

إقرأ أيضاً: عزيزي المرشّح؛ كيف تفوز بالانتخابات؟

الآن يحدث العكس، حيث يعمد البعض من الأساتذة في الصفّ إلى جعل المادة الدراسية غائمة، ولا يعطون المحاضرات حقها الوافي في الشرح، ويتعمّدون التمويه لغاية في نفس يعقوب، أملاً في الحصول على مزيد من حلقات الدروس الخصوصية وملء الجيوب الممتلئة أصلاً. ربما كنّا نبرر هذا المسلك يوم كان المدرس يشقى أيام الفاقة والحصار وضآلة الراتب الشهري، غير أننا الآن لا نغفر للمدرس تصرّفه الغريب الذي يهدف إلى تحريف رسالة المعلم السامية وتلويثها بالمطامع المادية وبذاءة جمع المال على حساب تطوير المهارات التربوية.

إقرأ أيضاً: جائلٌ في شارع الرشيد البغدادي

هناك أساتذة ومدرسون جعلوا بيوتهم معاهد وفصولاً دراسية، وخصصت غرف البيت صفوفاً معبأة بالرَحلات والسبورات وحتى وسائل الإيضاح وغيرها ترغيباً للطلبة الضعيفي المستوى حتى يشار إليه باعتباره مدرّساً متميزاً عن أقرانه المدرسين غير الحاذقين الذين لا يحسنون اللعب على الحبال ويعجزون عن الحصول على طالب واحد، أو ممن يأنفون من ممارسة تلك الظاهرة حفاظاً على مبادئهم ورسالتهم السامية، مما يولّد فروقات طبقية واضحة حتى بين أوساط المعلمين والمدرسين أنفسهم، فالمدرس الذي يلهث وراء الدروس الخصوصية لا يتوانى في الأغلب الأعم عن إنجاح الطالب الفاشل والكسول ما دام يغدق المال وفق قاعدة "الدرس الخصوصي مقابل الدرجات العالية"، فتنقلب الموازين العقلية، ويسمو الجاهل على زميله المجدّ المجتهد، ويعمّ الخراب في العمليات التعليمية والتربوية حتى تصبح الدروس الخصوصية جريمة أخلاقية ظاهرة للعيان، يرأسها معلمون لا يقلّون ذنباً عن بقية عتاة الجرائم الأخرى المشينة، وتصير آفة تنخر المجتمع كما تقول الشعارات المعلّقة في جدران المدارس من قبل وزارة التربية.

إقرأ أيضاً: ما يسعدُ الرجلَ في رفيقةِ حياتهِ

ومع أن وزارة التربية ظاهراً تحارب هذا المسلك، لكنها لا تتخذ الإجراءات الجادة والسريعة لفرض العقوبات الصارمة على منتسبيها العاملين من المعلمين والمدرسين، وتكتفي بإغراق المدارس والمؤسسات التعليمية بالشعارات واللافتات التي تدين تلك الظاهرة دون إجراءات عملية تقطع دابرها، ولو استثنينا مبادرتها المتواضعة في فتح قناة تلفزيونية تعليمية من قبل التلفزيون التربوي التابع لها وعرض محاضرات للطلبة، لكنها لم تستطع أن تنافس ذلك السيل الجارف من كارتل المدرسين الذين امتهنوا التدريس الخصوصي تجارة رابحة، أفرغت جيوب الآباء والامهات، إذ عجزت تماماً عن إيقافها عند حدها أو على الأقل التقليل منها وتضييقها.

أيها المعلمون الرسُل المبجّلون خففوا العبء الثقيل عن كاهل أرباب الأسر المتعبين، ولا تدعونا نأسف يوماً ما ونقول لكم: كاد المعلم أن يكون أكولا.