لم تزل القضية الكردية في العراق هي ذات القضية الساخنة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في (1921)، كونها قضية أمة تعدادها بالملايين، قضية وجودية بكل أبعادها، وما زالت هي إحدى أخطر القضايا البنيوية في العراق والمنطقة، ولا يمكن حل هذه القضية بمنطق القوة والسلاح كما يتصور البعض المتسم بالرؤية القاصرة والمشوشة، وقد أثبتت التجارب بأن هذه القضية عادلة، وباقية، فبالرغم من الجبروت العسكري لنظام البعث العراقي وطغيانه ومؤامرات ومساعي الأنظمة الإقليمية الراديكالية الحاكمة في المنطقة، والتي تضم دولها أراض شاسعة من كردستان وعشرات الملايين من الكرد، إلا أن هذه القضية لم تتوقف بالرغم من المصاعب والعراقيل، بل ازدادت قوة وتوسعت أبعادها نتيجة الإصرار المذهل للأمة الكردية على التشبث بأرضها وتاريخها ولغتها وتراثها عبر مئات السنين، بل منذ أن وجد الكرد على أرضهم التاريخية.

في آخر حوار له قبل أيام مع إذاعة "مونت كارلو"، وضع الزعيم الكردي مسعود بارزاني النقاط على الحروف فيما يخص مستقبل العراق ومستقبل إقليم كردستان ومجمل التعقيدات الحالية – والتي هي مزمنة بالأصل – إذ تطرق إلى موضوعات بالغة الحساسية والخطورة في الوضع العراقي، ولو قدِّر للمعنيين التعامل بروية وبذهنية منفتحة مع هذه الطروحات، لغدت منهجاً وخارطة طريق لخروج العراق من المأزق الذي يعيشه، لكنَّ المشكلة تكمن في العقلية الإلغائية التي يتسم بها أعداء الكرد، تلك العقلية التي تؤول الكلام (كلام بارزاني) بناء على الصورة النمطية للقضية الكردية التي ترسخت في دواخلهم، وهم بالرغم من ذلك لا يحاولون الانفلات من عقال ذات الصورة التي رسمتها الأنظمة السابقة في العراق، وكذلك الأنظمة الحاكمة في الدول الإقليمية، ولربما تطبع أصحاب هذه العقلية بطبائع النظام السابق، بل اتخذوا منها منهجاً للتعامل مع هذه القضية والتي إن لم تحل بمنطق العقل استناداً إلى القيم والمبادئ الديمقراطية، فستظل تشكل صداعاً مستديماً للمنطقة برمتها.

منهجية الزعيم الكردي مسعود بارزاني ليست منهجية التصدي للدولة العراقية كما يروج لها أعداء هذه القضية، بل هي منهجية تحمل معها الحلول الواقعية للأزمات العراقية المتتالية، ومن ضمنها الأزمة الأكبر وهي انقسام المجتمع العراقي على نفسه بفضل السياسات الخاطئة والمبتسرة للعقلية السياسية التي تدير العراق وتحاول الالتفاف على الديمقراطية والشراكة والتوازن، فحسب رؤية بارزاني وتقييمه للوضع – كأحد أهم زعيم كردي وعراقي وله الدور المشهود في بناء العراق الجديد - أنه لا يمكن للعراق أن يستمر بالصورة الحالية بل قد يسير نحو الهاوية بسبب تراجع الديمقراطية ومحاولات الانفراد بالقرار السياسي والمساعي الواضحة لبعض الأطراف لإعادته الى نمطية حكم المركزية الشديدة؛ الدولة العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين أخذت شكلاً آخر لنمطية الحكم والذي هو – نظام دستوري ديمقراطي برلماني تعددي - حسب الدستور العراقي، لكن شيئاً فشيئاً بدأت الكثير من القوى - والتي تتحرك تحت الضغط الإقليمي - بمحاولات جادة للالتفاف على الديمقراطية وعلى الدستور في محاولة للانفراد بالسلطة ضاربة التوازن والشراكة عرض الحائط، ويتضح هذا المنهج من خلال تعامل هذه الأطراف مع القضية الكردية لكبح جماحها ومنعها من الوصول إلى حلول ديمقراطية جذرية، ولطالما راهنت هذه القوى على خلخلة الوضع الداخلي لإقليم كردستان من خلال قطع معاشات مواطني الإقليم وربطها بالمشاكل السياسية، ومن ثم استخدام المحكمة الاتحادية العليا لإصدار قرارات من شأنها تقويض الإقليم الفيدرالي الدستوري، وكذلك الضغط على حكومة محمد شياع السوداني للحيلولة دون تنفيذ بنود الاتفاق السياسي الذي نتج عنه ائتلاف إدارة الدولة؛ مجمل هذه الأمور هي بمثابة ضرب الديمقراطية عرض الحائط ووضع الدستور على الرف أو في متحف أثري.

إقرأ أيضاً: رداً على شيرزاد شيخاني: خطاب التحامل والكراهية

يصف بارزاني قرارات المحكمة الاتحادية بأنها "غير منصفة وتجاوزت هذه المحكمة صلاحياتها وهي أصلاً محكمة غير دستورية تشكلت في عهد الحاكم المدني الأميركي للعراق (بول بريمر)"، وهذا الأمر بحد ذاته يشكل تقويضاً للديمقراطية والشراكة والتوازن، فلا يمكن لحد الآن فهم عدم تطرق هذه المحكمة الى أمور خطيرة للغاية وهي بمثابة قنابل موقوتة ومنها على سبيل المثال لا الحصر (المادة 140 من الدستور) الخاصة بالمناطق المتنازع عليها بين الحكومة الفيدرالية في بغداد وبين حكومة إقليم كردستان، وإن نظرت فيها فكيف ستكون قراراتها...! وهذه مسألة خطيرة ومهددة بالانفجار في أية لحظة.

إقرأ أيضاً: حلف بغداد من جديد وبحلة جديدة

أما على مستوى الداخل الكردستاني وشكل العلاقة والمشاكل والخلافات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، فقد جاء تقييمه وجاءت رؤيته واضحة وشاملة وغير مرتبطة بالمصلحة الحزبية الضيقة بل مرتبطة بكيان الإقليم ومستقبل شعبه، إذ وضِّح بارزاني بأن المشاكل أغلبها استراتيجية وعميقة وبنيوية، والحالة كما يراها بارزاني – مؤسفة – فهو يرفض المساومة على كيان الإقليم ويرفض التعاون مع أي قوة كانت لتفكيك الإقليم، ويرفض التحالف مع من يريد إنهاء الإقليم وهذه الأمور الثلاثة مصيرية بالنسبة إلى شعب الإقليم، ويبدو الطرف الآخر (الاتحاد الوطني الكردستاني) يتحرك ضمن هذه المحاور سواء كان ذلك منهجاً لديه أو جزءاً من ادارة الصراع لإضعاف وتقويض دور الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهذا الموضوع – أي مستقبل الإقليم وفيدراليته خط أحمر لدى كل مواطن كردي – إذ ليس بمقدور الكرد العودة الى مرحلة ما قبل سنة 1991 حيث نمطية الدولة شديدة المركزية والقمعية واللاديمقراطية، ولا يمكن بالطبع نكران ما وصل إليه الإقليم من حالة تشتت القرار وضعفه فيما يخص العلاقة مع بغداد، بسبب الخلافات الداخلية المزمنة.

إقرأ أيضاً: إقليم كردستان... تحديات وحدة القرار ووضع المواطن الكردي

رؤية الزعيم الكردي مسعود بارزاني رؤية واقعية ومنهجية فيما يخص الحلول للوضع العراقي، ومخاوفه وهواجسه ورؤيته المستقبيلة رؤية صحيحة فيما يتعلق بالديمقراطية في العراق الذي سيتجه نحو منعطف خطير إن لم تتم العودة اليها، هذه الأمور تنطلق من رؤية زعيم يشعر بخطورة الأوضاع ويستشعر مآلها الكارثي وهذه الرؤية هي نتاج تراكمي للتجارب السياسية المريرة التي خاضها الرجل كزعيم كردي بامتياز، رغم تلك المحاولات البائسة لتمويه الجمهور المتلقي بغير الحقائق عن مساعي بارزاني الجادة للمساهمة في وضع الأمور في مسارها الصحيح في العراق وضمان مستقبله ومستقبل شعبه بكل مكوناته الاجتماعية.