لم يعد مرض انفصام الشخصية "شيزوفرينيا" مقتصراً على المرضى العقليين الذين يعانون من عدم التمييز بين أفكارهم الخاصة وما يحدث في الحقيقة، بل صار يصيب أجزاءً من جسم الطبقة السياسية العراقية وهي تتقمص شخصية "دون كيشوت" الأسطورية، ذلك البطل الذي يصارع طواحين الهواء لأنه يتخيلها شياطين وينتصر عليها بخياله المضطرب.
عندما قال الزعيم العراقي الكردي مسعود البارازاني: "لولا إسقاط الولايات المتحدة النظام السابق فإن الموجودين في السلطة بالعراق الآن ما كانوا ليتمكنوا من حكمه أبداً"، فإنه كان يستعيد أحداثاً شهدها العراقيون والعالم أجمع، لكن بعض الإعلاميين من أتباع الرهط الـ"دون كيشوتي" يذهب بخياله إلى أن َّالملائكة قد قاتلت مع المجاهدين وتسببت في اندحار الدكتاتور صدام حسين وانتصرت عليه.
يمكن للماكنة الدعائية أن تزوّر التاريخ، لكن ليس من اليسير إضفاء الأكاذيب على الحاضر المعاش وأحداثه التي ما زالت طرية في الذاكرة القريبة وتداعياتها. قصة احتلال العراق ومجيء الطبقة السياسية بأحزابها الطائفية والعرقية والليبرالية وتسليمها السلطة قصة مؤرشفة في الفضائيات والصحف والإذاعات، وما زالت أسماء القتلى والمفقودين وأحداث النهب للمتحف العراقي وتدمير الدولة العراقية بمؤسساتها المتعددة (باستثناء وزارة النفط وأرشيفها)، وبطولات أحمد الچلبي وبقية المنظمات التي اندفعت لتعيث فساداً وسرقة وقتلاً بالعراقيين وتحت ظلال مدافع الدبابات الأميركية، مشاهد ما زالت تحتل مساحات شاسعة من مخيال الخوف العراقي بعد عشرين سنة من أبشع جريمة ترتكبها أميركا ضد حقوق الدول والإنسان في القرن الحادي والعشرين.
إقرأ أيضاً: رواية السيد الرئيس العربي!؟
تحدث السيد البارزاني بصدق عن حقيقة عاشها العراق، والرجل أقرب لنفسه وذاكرته من الآخرين الساكتين عن حقائق التاريخ بعد انعطافاتهم على مصالحهم الذاتية والطائفية، ويأتي الحديث بمناسبة توجيه الأطراف الشيعية المتشددة وبعض الفصائل المسلحة الدعوة لطرد التواجد الأميركي من العراق، وتشمل القوات العسكرية والتمثيل الدبلوماسي على حد سواء، بينما تتنصل البقية من الاعتراف بأنَّ العملية السياسية الحاكمة في العراق منذ عشرين سنة كانت صناعة أميركية أنتجها الاحتلال بعد الغزو الأميركي للعراق، لكن يبدو أنَّ الصدأ قد ران على ذاكرتهم التي عبأتها الهيمنة الطائفية وإغراءات السلطة والنفوذ التي تقطع الذاكرة بوهم الحاضر.
إقرأ أيضاً: العراق.. قلق سياسي، قلق اقتصادي
بات تركيز الفصائل المسلحة وبعض أحزاب الإطار التنسيقي على الانسحاب الأميركي من العراق يمثل الهدف الأبرز لنشاطهم السياسي والعسكري، وكذلك بعض الإعلاميين المرتبطين بتوجهاتهم، وتأتي هذه المطالبة بعد تصاعد وتائر الخلاف بين إيران وأميركا وتحرك أذرع إيران العسكرية للتعرض لتواجد القوات الأميركية ومصالحها، بالرغم من الدعم الذي يوفره الأميركان لحكومة الإطار التنسيقي ومشاركة القوات الأميركية الفاعلة في التصدي لداعش وتهديدها العراق.
القوات الأميركية تسيطر على الأجواء العراقية وتقوم بمهام التدريب والإشراف على القوات العراقية بموجب اتفاقية بين البلدين عام 2014، وهي تدعيم لوجود اتفاقية إطارية بين البلدين، وفي حال انسحاب القوات الأميركية من العراق فإنَّ الفراغ الذي ستتركه سيكون البديل عنها إيرانياً أو روسياً بحسب رغبات التوجهات السياسية المعادية لأميركا.
إقرأ أيضاً: العراق: قصف أميركي والخطر يتفاقم!
المقاربة الأميركية لحروب الشرق الأوسط والبحر الأحمر واشتداد الصراع الأميركي - الإيراني يعطي انطباعاً بعدم انسحاب التواجد الأميركي من القواعد العسكرية العراقية في بغداد أم الأنبار أم أربيل، الأمر الذي يجعل اندفاع الفصائل المسلحة العراقية في التعرض للتواجد الأميركي يُدخل العراق في حرب ضد أميركا وتلك ضريبة ثقيلة، باهظة الثمن، لا يستطيع العراق دفعها في ظل الأزمات السياسية الداخلية، واعتراض كل من الكرد والسّنة على الانسحاب الأميركي من العراق، وهو ما كشف عنه اجتماع مجلس النواب للتصويت على الانسحاب ولم يحضره سوى 85 نائباً من مجموع 329 نائباً!
التعليقات