اشتغل كتاب أميركا اللاتينية في جعل الأدب طاقة وعي اجتماعي نقدي يقدم صور جمالية مدهشة عن تنافذ العلاقة بين الأدب والسياسة، وقد اكتسبوا بذلك صفة المعارضة الثقافية من خلال حبكة متقنة لحكايات وقصص تعرض لغة وسلوك الاستبداد وأنماط الشذوذ النفسي والجنسي التي عرف بها رؤساء دولهم، فكانت روايات مثل "السيد الرئيس" للروائي الغواتيمالي ميغيل استورياس، ورواية "خريف البطريرك" للكولومبي غارسيا ماركيز، وغيرهما من روايات ارتفعت بمستوى الأدب اللاتيني للعالمية، وحاز كل منهما على جائزة نوبل للآداب.
توثيق مراحل نضال ومعاناة الشعوب في روايات وقصص مثيرة شكلت أفقاً يتميز بكونه أدباً حيّاً ويشكل جزءاً من ذاكرة تلك الشعوب ومراحل حياتها، وكان مدخلاً حيوياً جديداً للوصول إلى العالمية بكون هذه الظاهرة لا تقتصر على دول وشعوب أميركا اللاتينيَّة، وإنما يمكن إسقاطها على أجزاء عديدة من دول العام الثالث، وهنا لا يعتمد التوثيق على كتب الدراسات والإنشاء السياسي الجاف، بل يحلق في قراءات نفسية لرغبة القارئ بالتعرف على المخفي في حياة وسلوك الرئيس الذي يقترحه خيال الروائي.
الأدب الروائي العربي اعتذر عن الغوص بالفردي، وأعني به أنماط سلوك الرئيس وحياته، واتجه لقراءات مجتمعية ورومانسية وما يظللها من شحنات وجع وأمل وأحلام ومعاناة، ولعل المدرسة الواقعية النقدية وطغيان المفاهيم السياسية وضغط الآيديولوجيا في مناخات تخلو من الحرية، أخذت الروائيين العرب في مسارات بعيدة عن تيار الواقعية السحرية لأدب أميركا اللاتينية في تكثيف أدب "الرئيس"، بينما تسود دول الشرق الأوسط نمط حياة خاصة بـ"الرئيس" أي رئيس الدولة، حياة متميزة وفيها استثناءات عجيبة لا تشبه أياً من أفراد دولته، لا يخضع لمعيار الوظيفة ولا مبدأ الواجبات والحقوق ولا يخضع للقانون، يأتي بانقلاب عسكري أو بدعم خارجي أو مصادفات من خارج المنطق، لكن سرعان مايتملكه شعور العظمة والقوة المطلقة. نرجسيته تعلل له تفوقه الذي اشتركت به قوانين الأرض والسماء حتى يبلغ هذا الدور التاريخي. أنه هبة السماء إلى الأرض كما رددتها أمامه عشرات أو مئات قصائد الشعراء وأهازيج المهاويل.
لا يعترف الرئيس العربي أنه موظف يؤدي خدمة لقاء راتب معيشي، بل هو قائد الشعب ومفجر الثورات بحسب التاريخ الجديد الذي يصوغه لنفسه ويدونه كتاب القصر الحكومي. زعيم البطولات التي انتصر فيها وحاز على تلك النياشين والأوسمة المتدلية على جانبي صدره. الرئيس في شرقنا المغطى بالقهر والاستبداد والفساد يصبح الشيخ الكبير للقبيلة والحاكم بأمره، وهو يملك جميع السلطات بيده، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهو المنادي بالديمقراطية والحرية والاشتراكية، ولن يتردد في تطبيق "الديمقراطية" وإجراء الانتخابات ليفوز بنسبة 99,9 بالمئة.
إقرأ أيضاً: الديمقراطية الطائفية = دكتاتورية بثياب ملونة
منح الرئيس لنفسه حق التصرف بالوقت واللغة والأموال وقرارات الحرب والموت وتسخير الدين وفقاً لمشيئته، ووضع نفسه مقابل سلطة الرب الأعلى، هو متقن الإيمان حين يتكلم بشرع السماء ومتى يرغب يصبح إمام زمانه وفقيه عصره، بل هو روح العدل حين يحكي بالحقوق وقوانين العدالة، يتفوق على جيفارا وتروتسكي حين يثرثر بالثورية والحرية، هو الأول وفي كل شيء بالعلم والفن والتاريخ والفكر والحضارة وتربية الوزراء والشعوب وطريقة مسك ملعقة الطعام وارتشاف الشاي بلا أصوات مزعجة، ومتى ما يشعر بالفراغ يؤلف روايات وأشعار... ويشجع السينما على إنتاج أفلام لقصص حياته وبطولاته بعد أن يشعر بالملل من الأغاني الثورية والوطنية.
الرئيس في بلداننا يسن القوانين وفقاً لمشيئة عقده في الطفولة والصبا والشباب وأمنيات مقهى المحلة التي كان يجلس فيها زمان، وليس وفق متطلبات الزمن واحتياجات المجتمع وحراكه. لا يعرف الخطأ، معصوم بالكامل ومعفي من الهفوات، طالما أنَّ مستشاريه ووزرائه ينبهرون ويصفقون ويهتفون له، ليس لأنَّ أمه حلمت بأحد الأنبياء يخبرها بوليدها الذي سوف يصبح أسطورة زمانه، بل لأن الشعب والوزراء ووجهاء البلاد وكبار رجال الدين يجدون فيه قدوتهم والجمال والكمال الذي لا يطاله خلل فيكثرون الدعاء والتهليل والتصفيق والدعاء وقصائد الشعر والنثر.
الرئيس يغترف من الأموال بشهية لاتنقطع ويحتاز القصور والممتلكات بشراهة يضحك منها حتى المجنون، يحتال على نفسه وعلى الآخرين لكي يخضع لرغباته الذاتية بمسوغات تناظر شطحات القراصنة.
إقرأ أيضاً: العراق: أميركا تزرع وإيران تحصد!
في المجتمعات المخصية من الوعي والصدق، يجد الرئيس نفسه هو الأنموذج الأعلى للكفاءة والنزاهة والبلاغة والإنسان الكامل، بينما هو ينزف رداءة وقبحاً وشذوذاً وفساداً وانحرافات غير مسبوقة.
كم عانت الشعوب العربية من نموذج الرئيس الثوري الاشتراكي العروبي الديمقراطي، أهدر ثرواتها وأرواح شبابها بمغامراته البائسة وحروبه الخاسرة، عطلّ النمو وكتم الأنفاس والأصوات وعمم الممنوعات وأرضعها الخوف سنين طويلة حتى فقدت الشعوب معنى وطعم الحرية بعد أن أطعمها الموت وألقى بها في السجون السرية والمقابر الجماعيَّة. معاناة وآلام وتشوهات أصابت عمق تلك المجتمعات حتى عادت مجتمعات مشوهة معاقة فكرياً تكره الحرية وتعشق عبوديتها وتصفق للجلاد والقاتل.
بعد سنين طوال من رحلة التصفيق للرئيس العروبي الثوري الاشتراكي، تكتشف الشعوب أنها كانت تعيش في زمن الغيبوبة القسرية والتخدير الطوعي، لكن متى تدرك ذلك؟ تدركه لحظة سقوط الرئيس وتفكك أنظمته البوليسية وهروبه من نقمة الشعب فيظهر مثل نمر ورقي تمزقه الريح.
التعليقات