عجلة الزمن الأميركي في العراق بدأت تدور باتجاه معاكس لعقارب الساعة. تحول يأتي بعد عشرين سنة من إسقاط نظام صدام حسين باحتلال عسكري أميركي أحدث زلزالاً في الشرق الأوسط والعالم. كان المخطط الأميركي يهدف إلى إنهاء النظام الدكتاتوري لحزب البعث في العراق وإقامة نظام ديمقراطي، ثم توالت القرارات بحلّ الجيش العراقي وتدمير بناه التحتية وتفكيك منظومات النظام الأمنية والقضاء على مخزوناته من الأسلحة والأعتدة في مخازنه العملاقة، كذلك أقدم الاحتلال في واحدة من أخطائه الإستراتيجية، على اجتثاث المنتسبين للأجهزة الاستخبارية والقمعية التي كانت تمثل ركائز قوة النظام بعد انهياره اقتصادياً واجتماعياً.

عشرون سنة فشل الاحتلال الأميركي في بناء نظام ديمقراطي في العراق، والسبب باختصار شديد أنَّ أميركا أرادت إنبات الديمقراطية في تربة غير صالحة، بعد أن سلّمت مقاليد السلطة في البلاد لمجموعة من الأحزاب الإسلامية والقومية من الشيعة والأكراد ثم السّنة، وأهملت مشروع بناء الدولة الوطنية التي يمكن أن تنمو فيها مشاريع الدولة المدنية والحياة الدستورية في تراتبية زمنية تترافق مع تنامي الوعي بالمشروع الديمقراطي بعد مرحلة انتقالية مناسبة تعطي مؤشرات لتحول عملي في الوعي الاجتماعي نحو الحياة الديمقراطية، وهذا الأمر يرتبط بالقوانين والإجراءات التي تُشرع بهدف تنمية الوعي بالديمقراطية.

إنَّ السبب الحقيقي لفشل بناء المشروع الديمقراطي الأميركي في دولة استمرت لعقود عديدة تحت سلطة دكتاتورية وحكم العسكر، يعود لوجود دستور يؤكد على دولة مكونات شيعية، كردية، سنية، منكفئة على أفكارها وذاكرتها الطائفية والعرقية وما تختزن ثقافتها من قمع وممنوعات وتابوات وأحقاد، جعلها تنطلق بتحقيق حلم ينبثق من عمق الخيال الأسطوري، وهي تتمثل في سلطات حكم جاءت سلوكياتها لتمثل ردات فعل على تاريخ الاضطهاد والممنوع الذي استغرق كامل تاريخها.

أحزاب الإسلام السياسي التي هيمنت على السلطة في العراق كشفت حقيقة أنَّ مشروعها ليس بناء دولة وطنية تقوم على استراتيجية المواطنة والبناء والتقدم، بهدف الارتقاء لما ينبغي أن تكون عليه دولة مثل العراق تمتلك إرثاً ثقافياً كبيراً، وموارد بشرية ومالية وطبيعية وتاريخية مايجعلها متفوقة على جميع دول الجوار، بل ان الفكر العقيدي لهذه الأحزاب لا يعترف بالوطن، وإنما العقيدة وما تفرضه هي التي تمثل الوطن، وهكذا تعاملت الأحزاب الشيعية والسنّية مع العراق، فعاد متخلفاً ومجرداً من الصناعة والزراعة والاستثمار، وكل حزب أو مكوّن يتبادل المصالح مع الدول التي تمثل مرجعياته العقيدية. فالشيعية تمسكوا بوطيد العلاقة مع إيران وامتثلوا لمصالحها، والسّنة ذهبوا باتجاه تركيا وقطبية الإخوان المسلمين، وعبرت الأحزاب الكردية عن حق تقرير المصير بوجود دولة كردية لأنها لم تجد نفسها مشاركة مشاركة فعلية بالقرار التشريعي والتنفيذي، بل اكتفت بسلطاتها داخل الإقليم التي لم تخل من مشاكل وخلافات بين الحزبين الكرديين الرئيسين.

استند الأميركان إلى منطق تقاسم السلطات بين المكونات الثلاث، واستتبع ذلك تقاسم "الكعكة"، أي واردات الدولة من أموال النفط والضرائب، بين الأحزاب التي تدعي تمثيل هذه المكونات، كذلك في الاستحواذ على أصول الدولة من مباني وقصور رئاسية ومصانع وأراضي وغيرها من ممتلكات لا يمكن أن تقدر بثمن، وانتهى المشروع الديمقراطي إلى انتخابات تجرى كل أربع سنوات لتكرس بقاء هذه الأحزاب في السلطة واحتفاظها بجميع مراكز المال والنفوذ والقوة والتشريع والقضاء.

عاشت هذه الأحزاب مرحلة تشاحن طائفي وقومي استدعت وجود ميليشيات وفصائل مسلحة لحمايتها، فتشكلت جيوش خارج نطاق الدولة والمؤسسة العسكرية، وأصبح لها تشكيلات ومقرات وتجهيزات وأسلحة ورواتب من خزينة الدولة، وهذه الظاهرة تُعد ترجمة وافية لعدم ثقة هذه المكونات بالجيش العراقي ومؤسسات الأمن الوطني.

الآن... وبعد فوات الأوان، صارت أميركا تدرك حقيقة ارتماء الأحزاب المؤلفة للحكومة والميليشات المرتبطة بها بالحضن الإيراني بعد أكثر من مئة هجمة صاروخية وبقذائف الهاون على قواعدها في العراق وسوريا!؟ ليس هذا وحسب، بل ان أغلب هذه الأحزاب والفصائل طالب صراحة برحيل القوات الأميركية الموجودة في العراق وغلق سفارة الولايات المتحدة الأميركية وقطع العلاقات معها!؟

إنَّ الذي يضع أميركا في حرج اليوم هو إدراكها أنَّ مطالب الأحزاب الشيعية الحاكمة في العراق وفصائلها المسلحة الضاغطة على حكومة السيد محمد شياع السوداني، تأتي امتثالاً للأوامر الإيرانية التي أدخلت الوضع الأمني في العراق ضمن أجندتها في الصراع مع أميركا.

هل تستجيب أميركا للطلب الشيعي الحاكم بالرحيل، وتغادر العراق بعد خسارة أكثر من ستة ترليونات دولار أميركي، وآلاف الجنود والضباط الذين قتلوا في مشروع إسقاط نظام صدام وبناء الديمقراطية؟

الجواب بالتأكيد كلا بحسب الموقف الأميركي، لأن الوجود الأميركي يرتبط باتفاقيات سياسية مثل اتفاقية الإطار الإستراتيجي بين البلدين وبنودها المتعددة، واتفاقية تواجد قوات التحالف الدولي بقيادة أميركا التي جاءت بطلب من العراق بعد أحداث داعش الإرهابية وتجديد تلك الاتفاقيات، ناهيك عن الإشراف الأميركي على تسليح الجيش العراقي والقوة الجوية وسيطرة الأميركان على الأجواء العراقية، ونذكر بهذا السياق الحديث المتكرر لوزير الدفاع الأميركي وكبار قادة الجيش أن الوجود الأميركي سيبقى لزمن طويل في العراق.

الخلاصة التي تتجلى اليوم تتضح بسلسلة أخطاء ارتكبتها أميركا باحتلال العراق، والنتيجة تشير لحقيقة أن أميركا زرعت بكلفة عالية، وإيران تحصد مجاناً!؟