تتكرَّر في الآونة الأخيرة تلك الأسطوانة التي سمعناها مراراً من بعض الأطراف السياسية العراقية حول إخراج القوات الأميركيَّة من العراق. وتبعها مؤخراً تصاعد الهجمات المتتالية من قبل من يتخفون تحت مسمى "المقاومة الإسلامية" ضد المواقع التي يتجمع فيها من بقي من تلك القوات بشكل غير مسبوق، في تناغم مع ما تروج له المقاومة بدعم حرب غزة، في حين أنَّ الحرب هناك تقع بين حماس والجيش الإسرائيلي، وليس مع القوات الأميركية التي لم تحتل أرضاً فلسطينية أو تعتدي عليها، ما عدا أنَّ أميركا، وبحكم علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل، تقدم لها دعماً سياسياً وعسكرياً ضمن إطار اتفاقات مسبقة بين الدولتين، مثلما قدمت روسيا الدعم للنظام السوري، وما قدمته إيران للعراق في التصدي لتنظيم داعش الإرهابي.
أمَّا في العراق، فإنَّ التواجد الأميركي لا يعدو سوى بضعة آلاف من المستشارين والمدربين للقوات العراقية حسب الاتفاق الأمني الاستراتيجي الذي وقعه العراق مع الولايات المتحدة، وجرى ذلك الاتفاق برضا وقبول الجانب العراقي. وباعتقادي أنه لو كان الجيش العراقي وقواته الأمنية قادرة ومؤهلة للتصدي للمخاطر المحدقة بالعراق وبإمكانها مواجهة الأعداء الوافدين (القاعدة وداعش وغيرهما)، لما كان هناك أصلاً أي حاجة لإبقاء هذا الجزء الصغير من القوات الأميركية للإفادة من خبراتها وقدراتها الاستخبارية والتكنولوجية في التصدي لتلك المخاطر.
ولا ننسى أنه مع خروج القوات الأميركية عام 2011، بدأت المخاطر تتعاظم في البلاد، وكادت الفتنة الطائفية أن تطل برأسها مجدداً، ولعل نشوء تنظيم داعش الإرهابي لاحقاً، ثم احتلاله مساحات شاسعة من أراضي العراق، هو نتاج مغادرة القوات الأميركية وسيطرتها حينذاك على الملفين العسكري والأمني. ويجب ألا ننسى أيضاً أن ما بقي من القوات الأميركية بعد الجلاء لعب دوراً مهماً للغاية في ملاحقة عناصر هذا التنظيم، ووجه له ضربات موجعة، وكانت الطائرات الأميركية تدك معاقل التنظيم في أرجاء العراق والتي كانت ولا تزال عصية على القوات العراقية بإمكاناتها العسكرية المحدودة. ولا يمكن إنكار حقيقة أنَّ تلك الضربات الأميركية بالذات أنهت إلى حد ما التهديدات الداعشية، وأصبح العراق، وخصوصاً عاصمته بغداد، ينعم بالسلام والأمن بعد إضعاف نشاطات هذا التنظيم الإرهابي.
إنَّ تصاعد الهجمات الأخيرة على المراكز العسكرية للقوات الأميركية من قبل من يطلقون على أنفسهم "المقاومة الاسلامية"، من دون الكشف عن هويتهم وانتماءاتهم خوفاً من المساءلة القانونية، رغم أنَّ ولائهم معروف لجهة خارجية، بذريعة إخراج من تبقى من القوات الأميركية، والضربات المكررة على مقر السفارة الأميركية في بغداد، والتي تتسبب بتصاعد الانتقادات الدولية بما فيها دعوات الأمين العام للأمم المتحدة ضد العراق بشأن حماية البعثات الدبلوماسية على أراضيه، تدل هذه الهجمات على ضعف السلطة العراقية أمام الخارجين على القانون أياً يكن انتماؤهم السياسي أو الطائفي، وهي تدلل أيضاً على أن هذه المقاومة تلحق ضرراً فادحاً بسيادة العراق وقدرة حكومته على إدارة شؤون الدولة، وتبين فشله في الالتزام بأهم واجباته تجاه المجتمع الدولي، أي حماية البعثات الدبلوماسية.
وحين يتساءل أحد الكتاب العراقيين هل أنَّ الوجود العسكري الأجنبي يشكل خطراً على سيادة العراق وأمنه، ويجيب بنفسه "نعم نعم نعم"، فإنَّه بهذا الجواب يخادع نفسه ويخدع الآخرين معه. صحيح أن لا أحد يرضى باحتلال بلده من قبل الغير، ولا أن تتدخل أي دولة بشؤونه الداخلية، لكن ما نراه اليوم هو أن سيادة العراق منتهكة بالفعل من قبل العديد من القوى الأجنبية التي جعلت من ساحة العراق مسرحاً لصراعاتها، فالسيادة العراقية منتهكة حين تتواجد مئات القواعد العسكرية التركية داخل الأراضي العراقية بحجة مطاردة عناصر العمال الكردستاني الذين يتخذون جبال قنديل مقراً لهم وليس المدن والأقضية بعمق الأراضي العراقية والتي تتعرض يومياً لعشرات الضربات الجوية والمدفعية وتقتل العشرات من مواطنيها، فلماذا لا تتحرك المقاومة الإسلامية باتجاه طرد القوات التركية من قواعدها داخل العراق، وهي في كل الأحوال قوات احتلالية لا يحظى تواجدها بأي سند قانوني أو قرار من البرلمان العراقي!
ليس من شأن الميليشيات، ولا من يسمون أنفسهم "المقاومة الإسلامية"، أن يخرجوا القوات الأميركية من العراق أو إعلان الحرب ضدها، فهذا شأن الدولة التي عقدت اتفاقاً أمنياً استراتيجياً مع أميركا، والدولة هي صاحبة قرار كهذا بعد الدخول في مفاوضات مع الجانب الأميركي، ثم عرض الأمر على البرلمان العراقي الذي له وحده إصدار قرار الحرب، وإلا فإنَّ ما يجري على الساحة العراقية حالياً من هجمات غير مسبوقة ضد المراكز العسكرية والسفارة الأميركية لا يخدم مصلحة العراق، بل ينتقص من سلطته وسيادته. ثم ان رد الفعل تجاه تلك الهجمات لا يقلّ خطورة على الوضع الأمني، فكما نرى اليوم، فإنَّ أيّ ضربة ضد تلك القوات تواجه بتدخل عسكري مباشر ضد القيادات التي تنضوي تحت لواء "المقاومة الإسلامية"، مما يؤدي في المحصلة إلى دورة عنف جديدة ستعصف بالعراق.
لقد أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أنه يحتاج إلى بعض الوقت لترتيب الأوضاع بما يمكنه من التفاوض مع الجانب الأميركي لحل المشكلة، ونحن نرى أنَّ التفاوض بين الدولتين أفضل من توجيه بضعة صواريخ ودرونات إلى السفارة أو إلى معسكر الأميركيين، والتي يسقط معظمها، إن لم نقل كلها، قبل إلحاق أي ضرر بالجانب الآخر، وهي كلها محاولات عقيمة لا تسمن ولا تغني من جوع.
يجب على "المقاومة الاسلامية" ألا تكرر خطأ حماس حين أقدمت بإمكانيات متواضعة على مواجهة غير متكافئة ضد القوات الاسرائيلية المدججة بأفضل أنواع الأسلحة والمدعومة من قبل أميركا وحلفائها، وألا تجر العراق إلى مستنقع لا يمكن الخروج منه في مواجهة غير موفقة. على "المقاومة الإسلامية" أن تترك الأمر للحكومة والقيادة العراقية لكي تعالج بهدوء وروية هذا الموضوع، دون إثارة الغضب الأميركي وتحويل العراق إلى ساحة لحرب أخرى، فقد شبعنا وارتوينا من الحروب العبثية التي دفع العراقيون ثمناً باهظاً لها من أرواح شبابهم، والتي عطلت مسيرة التنمية وإعادة بناء العراق الجديد الذي انتظره العراقيون منذ أكثر من ستين عاماً من حكم الدكتاتوريات المتعاقبة.
التعليقات