اغتيالات نوعية متكررة كأنها شرارة النار التي تسري في سلك التوصيل لبرميل البارود لكي ينفجر، والهدف الرئيس الذي كشفت عنه الأحداث كان حزب الله في لبنان، الجبهة الأهم لقواعد إيران التي تشتغل على العمق الإسرائيلي، خزان البارود من صواريخ إيران ومسيّراتها التي تهدد بها بمحو إسرائيل دون الإقدام العملي للمبادرة بحرب رادعة رغم خسائرها لعناوين مهمة وفاعلة بدءاً من اغتيال زعيم الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، ومروراً برضي موسوي وصولاً إلى صالح العاروري وحسين يزبك وقادة حركة النجباء في بغداد، وثمة طابور آخر طويل من ضحايا إيران تحمل شواهده المقابر في سوريا والعراق ولبنان.

كانت القراءات تذهب للاعتقاد أن إيران سوف تدخل الحرب ضد إسرائيل، لأن البروباغندا الإيرانية انهمكت ولسنوات عديدة في شحن فضاءات الإعلام بقدرتها على إنهاء إسرائيل وزوالها وصواريخها القادرة على محو تل أبيب بلمح البصر، لكن اعتداءات وخروقات باهظة الثمن ارتكبتها إسرائيل ضد إيران وفي عقر دارها، أعطت النتيجة النهائية بأن إيران لن تدخل الحرب المباشرة ضد إسرائيل أو أمريكا، بل تشاغل الآخرين من خلال أذرعها، ورغم كثافة مأساة الحدث الفلسيطني في غزة وعمق جراحها التي توصف بأشد من نكبة حزيران أو 48، لكنها أعطت لنفسها تبريرات تؤكد تراجع إمكانياتها على خوض حرب مباشرة، وأهل إيران أدرى بأوضاعها.

لقد أدركت إيران بعد حرب ثماني سنوات مع العراق، أنها غير قادرة على احتلال أي دولة عربية، فلجأت لاحتلال آخر من نوع ناعم أقترحه ذكاؤها السياسي، أي التمدد العقائدي والاستثمار في التنوع الطائفي في البلدان العربية الفقيرة تحديداً، فتسربت نحو الحوثيين وفقراء سوريا ورصنت وجودها في الجنوب اللبناني، وكانت تقدم الدعم المادي مصحوباً بثقافة تتساوق مع النوع البشري لتلك المناطق وكل حسب بنيته العقائدية إذا كانت سنيّة أم شيعية، فكانت تؤسس لقواعد سياسية عقائدية مسلحة (ميليشيات) بسرية وتدريب نوعي، وجاء سقوط نظام صدام حسين ليفتح لها الطريق واسعاً أمام العراق وسوريا ولبنان وكذلك اليمن إضافة لحركتي حماس والجهاد.

خطوط ردع إيرانية تتمثل في خمسة جيوش في الشرق الأوسط تمتد حتى جنوب الخليج العربي، بعضها محترفة للقتال وأخرى عبارة عن ميليشيات متحركة بحدود مفتوحة بدءاً من طهران حتى شواطئ الأبيض المتوسط غرباً وبحر العرب والبحر الأحمر جنوباً والجنوب الغربي، خطوط تعويق إيرانية بكلف قليلة وتسليح متيسر لكنه قادر على تهديد بوارج وسفن حربية وأخرى تجارية وحاملة طائرات وغيرها مما تمتلكها قوات البحرية الأميركية من وسائل اتصال وتقنيات متطورة جداً، وكل ذلك يحدث دون مسؤولية قانونية تقع على إيران، لأنَّ ماحدث ويحدث بعيداً عن أراضيها، ولم تتبن َقراراً رسمياً بالحرب، بل هي عادة ما تدعو للسلام والأمن في المنطقة وتفتح أبواباً جديدة للحوار مع دول أوروبا بشأن الملف النووي الإيراني، في تزامن يخضع لسخونة الأحداث ودرجة التهديد التي تتعرض لها.

استراتيجية إيران تنجح عبر تحريك ميليشيات وفصائل مسلحة غير رسمية، تعمل خارج الغطاء القانوني للدول والمساحات التي تتموضع فيها، وهذا بحد ذاته يمثل مشكلة بأوجه متعددة للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في وقت واحد، وتتقاطع مع الاستراتيجية الأميركية التي تملك أعلى مستويات التجهيز والإعداد القتالي والماكنة الحربية الهائلة، ما يعرضها للإحراج والهزيمة إذا ماتعرضت لخسائر كبيرة خصوصاً في قطعاتها البحرية أو أعداد القتلى في المواجهات، ووفق المعيار الأميركي فإنَّ تكلفة أعداد وتسليح الجندي الأميركي تبلغ أرقاماً كبيرة مقارنة بالمقاتل الحوثي أو الغزاوي أو الميليشياوي.

إيران لاتريد خوض حرب مباشرة لأنها سوف تتعرض لتدمير لا تستفيق منه إلا بعد قرن من الزمن، وتجربة العراق ماثلة أمامها، بل هي ترغب في حرب استنزاف ومشاغلة طويلة الأمد وفي بيئات مختلفة، بهدف تحقيق أكبر قدر من الخسائر بالجانب الأميركي في حرب تخوضها بالإنابة عنها ميليشيات وجيوش تترابط عقائدياً مع ولاية الفقيه، حتى إذا تطلب الأمر أن تخسرها في غزة أو اليمن أو سوريا، المهم أن تكون إيران بعيدة عن لهيب الحرب ودمارها الأكيد، ومن هنا ليس من المتوقع نهايات قصيرة وسريعة لهذا الصراع المسلح، إلا في حال انتقلت الحرب لمركز القوة الدافعة "إيران" وليس جيوش الإنابة، وهذا ما تسعى وتعمل على تحقيقه إسرائيل في حال توسع الحرب وانتقالها للمصدر الممول الرئيس، مستفيدة من تواجد القوات الأميركية وحلف الناتو ودعمهما لإسرائيل في حربها واحتمالية توسعها، وما تلك الاستهدافات المتكررة بصيد عناوين إيرانية ولبنانية وفلسطينية قوية سوى مساعي لإدخال إيران الحرب على نحو مباشر أم من خلال حزب الله .. ترسانة البارود الإيراني، والأيام حبلى بالأحداث.