متر طول! كلام لفت تفكّر الكثيرين بعد أن لفت أسماع الجميع. ما علاقة الطول؟ وما دلالته؟

تفسيرات كثيرة تفنن الناس في استخلاصها. البعض ربطها باللغة، والبعض جاز اللغة إلى التحليل النفسي، والآخر إلى التحليل السياسي... وبالطبع، كما هو الحال دومًا، الجميع محق، والجميع يملك الحقيقة والمعرفة اليقين التي لا يعرفها الآخرون!

من فسّرها لغة ارتكز إلى المعنى التعيينيّ، الذي يفيد حقيقة لا لبس فيها. فصاحبُ القول طويل، ويكاد يفوق بطوله الكثيرين، ولذلك، فهو لا يجنح إلى المجاز عندما يقول إنَّ الفارق متر طولٍ.

ومن فسّرها متذرّعًا بالمعرفة بمجاهل النفس الإنسانية، وأغوارها، ومخابئها، ودهاليزها، فسّر العبارة على أنَّها دليل على عدم القبول بما آل إليه واقع الحال من استغناء عن القائل. ورفض لهذا الواقع الذي أثبت أن لا صداقة في السياسة، وأنَّ التخلّي ليس ساعة، بل قد لا يأخذ قرارُه غمضة عين.

ومن فُطر على فك الألغاز، ومقارعة المجهول، وشَطْر غموضِه، وكأنَّه أبو زيد الهلالي يقتحم الأهوال والمجاهل وفي صدره قلب سبعٍ، وفي مقلتيه جارحة نسْرٍ، وفي جيبه علُم الغيب في ما اتّسع منه للبشر، وفي تقطيبة غُرّته غوص في أكوان التفكير، وكشف لحجب السياسة، وأدغال المطابخ العالمية السياسية كافة، وترجمة لخرائط الكنوز ودروب العفاريت؛ إنّما – هذا الذي فُطر على التذاكي واِدعاء المعروفة – جمع عدة معادلات يراها على الساحة اللبنانية والإقليمية والدولية التي تُعنى بالشرق الأوسط، وطرح، وضرب، وقسم، متجاوزًا قانون الجاذبية، مستفيدًا من نكهة التفاح البلدي، متعاطفًا مع التهرّب الضريبي، مستدلاً على القفز فوق القوانين دالاً عليه... كل ذلك ليصل إلى نتيجة أنَّ الوضع باق على ما هو عليه، لأنَّ الفرق في الطول، هو متر، والمتر من دون إلحاق له بالمحتوى، والأثر، والسيرة، والنهج، والسّير، والركب... يكون خيالاً من دون هيولة... مما يعني أنَّ المفاهيم السائدة والوقائع ستبقى على ما هي عليه من دون تغيير...

فما هذا الذي سيبقى على ما هو عليه؟! عيب هالسؤال! ولو!!! لأنني لبنانيّ أعرف!!! [هكذا يقول المغرم بالألغاز، السياسي المحنك بحُكم الولادة والفطرة – اللبنانيّ منذ أكثر من عشر سنوات]

الذي سيبقى على ما هو عليه فساد يبدأ برشوة الطفل حتى يأكل، أو يتوقف عن البكاء، ويتعاظم حتى يصل إلى رشوة لأداء وظيفة هي في أمانته، أو إنجاز معاملة هي من أقل واجباته...

الذي سيبقى على ما هو عليه فساد ضربت جذوره في الأرض وصولاً إلى نواتها، حتى صار مجرد تخيّل إمكانية قلعها ولو لثانية يغمر العقل بتسونامي يبتلع الأخضر واليابس والحجر والبشر، ويخنق النفس في الرئتين حدّ الانفجار المدمّر...

الذي سيبقى على ما هو عليه استقواء وتعالٍ في الخطاب بين شرائح الأوطان اللبنانية، التي ترى في نفسها الوطنية الحقة، ولبنان الحقيقي الذي وُجد من أجلها، أو لتتسلّم مجده «هديّة». على مستوى الساسة والعامة، وحتى الأتراب، من أي عمر كانوا، ولأي فئة مجتمعية كانت... إذ إنَّ الصداقة حتى هُزمت أمام الاستقواء واستعمال صيغ المبالغة في الخطاب، وصولاً إلى التخوين والتخوين المتبادل، ومحاولات الإلغاء.

الذي سيبقى على ما هو عليه ترخيص «على بياض» أعطاه البعض لذواتهم، ليصنفوا الناس، ويسِمُوهم بما يرضي تجبّرهم، وتردّي نظامهم القيميّ والأخلاقيّ أحيانًا، وليمنعوا عليهم إبداء رأيهم، وليعيبوا عليهم اِحترامهم للعقل والتفكير والنقد والتحليل...

الذي سيبقى على ما هو عليه كفاءة مرمية في زوايا الطرقات تتسول حقّها، وزيفٌ تُفتحُ له أبوابٌ، والمنابر، والمحافل...

الذي سيبقى على ما هو عليه فوضى في الشوارع، ودراجات نارية تقود في الطرقات المكتظة وكـأنها بِيْدٌ خالية، تكرُّ على السيارات تمنعها من المضي في طريقها، أو تقطع عليها سيرها بكل جرأة مصحوبة بغضب على السيارة وسائقها لأنَّه جاء في الوقت غير المناسب لصاحب الدرّاجة، ولم يتبخّر من أمامه فورًا...

الذي سيبقى على ما هو عليه نزاهة وشرف مهنة وضمير تُسلَّط عليه ألسنةُ السفهاء الذين تعوّدوا التقاط الفتات على أعتاب الساسة وأصحاب النفوذ والقرار، وتمسيح الجوخ حتى يستحيل الحرير. سفهاء تفتح لهم المنابر والمحطات التلفزيونية التي عادة ما يراها الناس ذات مصداقية، لكي يرموا أصحاب الضمير في زمن قلَّ فيه الضمير في لبنان في العمل الرسمي خاصة، محاولين تشويه سمعتهم، وسيرتهم المهنية التي يتمثّل الثلج بنصاعتها، ممهّدين ربما لأذًى يريدونه لهم، أو إعاقة لطريق تقدمهم، أو تحضيرًا لحرمانهم من حقّهم في منصب أو مكانة؛ مروّجين للعملاء الذين ثبتت عمالتهم بحجة نُصرتهم مظلومينَ، وهم وإياهم في باقة واحدة من العمالة، والتشكّل في أقبية سوداء، وادعاء الشرف الذي لا يعرفون منه إلاَّ الحروف وقد نطقت بها الشفاه...

الذي سيبقى على ما هو عليه فوضى، تبدأ بالسياسة، وتمرُّ عبر القطاعات، وصولاً إلى العقول، التي هجرت كلَّ أنماط التفكير، وسلّمت للعمى والتبعية والجزرة...

الذي سيبقى على ما هو عليه سخافة تنهش أعمار الناشئة على مواقع تواصل تؤسس للّا اِجتماعية عندهم، مُقْصية إيّاهم عن ذواتهم وعائلاتهم ومحيطهم البشري، والأخطر عن عقولهم، وملكة التفكير لديهم، مفرغة إياها من كلّ مضمون، مسمّمة إياها بكل زيف وأوهام ورياء، معزّزة لديهم شعور عدم الرضا بالحياة الحقيقية الـمُعاعشة، وقناعة أنَّ عيش المشاهير -وإنْ تزييفًا ووهمًا ونصبـًا- هي الحياة الحقيقية، محفّزة مشاعر اللّا أمل، واليأس من الواقع، والميل إلى الانتحار والموت، وربـّما الجنون...

الذي سيبقى على ما هو عليه أخلاق ضائعة، مترنّحة بين شعارات الشرف وقشور التحضّر وتزلّف الحريّة وبهرج المدنية ولمعان الأضواء...

الذي سيبقى على ما هو عليه مقصّ رقيب يراقب قليلاً حيث يجب، وكثيرًا حيث لا يجب لا سيّما مراقبة هذه الأبواق المنتشرة على المواقع المختلفة، التي -وبكل أريحية- تقدح وتذم وتشتم وتُهين، وهي آمنة من أي محاسبة، متحصّنة بيقين عدم الملاحقة أو المحاسبة، وبصورة «البطل المقدام الشجاع ناصر المظلومين والمقهورين» التي يرسمها المجتمع لكل شتّام كذّاب...

الذي على ما هو عليه مواطنة ضائعة، مشتّتة بين منابر يصدح كلٌّ منها بمواطنة بالكاد هي على مقاسه، ولا تتسع لغيره، مواطنة نُبذت من السياسات التربوية غير الموجودة أصلاً، وعُلّقت مشانقها في مواطَنَات تُفَصَّل غبَّ الطلب، وقد أُزيلت كل مبادئها تحت شعار واحد: القوة!

الذي على ما هو عليه بلد يُهان فيه الكتاب وتُحتقر فيه المعرفة وتُجلُّ فيه بوالين الهيليوم عقولاً...

الذي سيبقى على ما هو عليه عيشٌ لا يهجره القلقُ، واللا طمأنينة، واللا استقرار، واللا أمان، واللا عدالة، واللا إنصاف، في بلد، الكل يريده وطنًا والكلُّ لا يسير في طريق جلجلته ليكون لهم جميعًا وطنًا؛ بلدٌ البشرُ والحجرُ فيه والمصيرُ دومًا على كفِّ عفريت...

لذا، عسى أن يكون الفرق الموجود في الطول خسارة، فرق في الأخلاق ارتقاءً، وفي الأداء ربحًا، وفلاحًا، وجسارة، وعدلاً، وإنصافًا، وأمانة، وأمانًا، ورخاءً، واستقرارًا، وأملاً لا ييأس من غد آتٍ... لأنَّ لبنان التاريخ الذي لا يملّ ملّ، والجبال التي لا ترتعدُ شَابَها الوجل ورماها الشيب، والسهول التي لا تنضب من خرير جفّت منابعها إلاَّ من القمامة والسموم، والإنسان أصبح سردًا منسيًا، والإنسانية مجرد ذكرى عابرة...

وعسى أن يكون الفرق الموجود في الطول مترًا إنصافًا للبنان الوطن وللإنسان في لبنان، واستبدالاً لكف العفريت بثبات ضارب في الأرض، رزينٍ والوجوه بها اصفرارُ، بسّامٍ ولو زلزلتِ الأرض زلزالها...

وعسى بهذا الفرق أن ينتهي عصر «كما تكونون يولّى عليكم»، إلى «تكونون كما وُليَّ عليكم منعةً وصلاحًا وَفَلاحًا وصدقًا وشجاعةً وأثرًا وموقفًا وفعلاً لا قولاً...»