في رحلة الغوص في تاريخ الدولة العثمانية، نجد أنفسنا أمام واقع يعيد تشكيل فهمنا لها من الأساس، ما اعتقدنا أنه تاريخ بسيط لدولة قومية ذات هوية تركية صرفة، يتلاشى أمام الحقائق التاريخية التي تضعنا أمام سؤال صادم: هل كان العثمانيون الحقيقيون أتراكاً في الأصل؟
منذ العهد المبكر للإمبراطورية، خاصة بعد فتح القسطنطينية، كان من الواضح أن السلاطين لم يحيطوا أنفسهم بالأتراك وحدهم، بل كانوا يعتمدون بشكل كبير على نظام (الدوشيرمة)، هذا النظام الذي قام على تجنيد الفتيان المسيحيين من البلقان وتحويلهم إلى قادة وجنود ومسؤولين مما شكل العمود الفقري للإدارة العثمانية، وهؤلاء الأشخاص الذين جُلبوا من أصول يونانية وصربية وألبانية وأرمنية، أصبحوا القوة الحقيقية التي تحكم الدولة.
في المقابل، كان العنصر التركي والتركماني محصوراً في الطبقات البيروقراطية الدنيا، أو يعمل في الفلاحة والجندية كجزء من الريف العثماني، بعيداً عن مراكز القرار والنفوذ. لقد كان معيار الترقية والوصول إلى السلطة في الدولة العثمانية قائماً على الكفاءة والولاء الشخصي للنظام، وليس على الأصل العرقي أو الانتماء القبلي.
هذا التوازن، أو بالأحرى هذا التفاوت، خلق طبقة حاكمة ذات هوية مختلطة. من يتصفح أسماء الصدور العظام (رؤساء الوزراء) والقادة العسكريين البارزين في الدولة العثمانية سيُفاجأ بأن معظمهم لم يكونوا من أصول تركية. على سبيل المثال، صقللي محمد باشا، الذي يعد من أعظم رجال الدولة العثمانية، كان من أصل صربي. وهناك أمثلة كثيرة على وزراء وقادة ومهندسين من أصول غير تركية قادوا الدولة ورسموا سياساتها لعقود طويلة.
إقرأ أيضاً: رشيد الخيون… حفّار الزمن ومروض الأسئلة
هذه الحقائق تصطدم بمفهوم الدولة القومية الحديثة، حيث ينظر البعض إلى الدولة العثمانية كرمز للهوية التركية. لكن في الواقع، الإمبراطورية العثمانية لم تكن يوماً دولة قومية بالمعنى الضيق للكلمة. كانت كياناً عالمياً متعدد الأعراق واللغات والثقافات. إن محاولة قراءتها بعقلية الدولة القومية الحديثة هو خطأ تاريخي فادح، لأنها كانت أقرب إلى إمبراطورية عالمية تضم كل من يستطيع خدمتها بغض النظر عن أصله أو دينه... أكرر أصله ودينه!
هذا التنوع لم يكن إضافة عابرة بل كان في صلب بناء الدولة وحتى المهام التقنية، مثل الهندسة والعمارة والرسم، كانت غالباً في أيدي أشخاص من أصول غير تركية، مما يعكس مدى شمولية هذا النهج في استيعاب الكفاءات بغض النظر عن خلفياتهم.
قد يتساءل البعض عن مكان العنصر التركي في هذه المعادلة. الحقيقة أنَّ الأتراك لم يكونوا غائبين تماماً، لكنهم لم يكونوا في مركز القرار. لقد كانوا جزءاً من النسيج العام، لكن أدوارهم غالباً ما كانت تتركز في الوظائف الدنيا أو الأدوار العسكرية العادية.
إقرأ أيضاً: هل نعيش فوق مدن لا نراها؟
إذا أردنا أدلة إضافية على هذا الطرح، يكفي أن نراجع أسماء الوحدات العسكرية والنخبة الإدارية للدولة العثمانية. الإنكشارية، القوة الضاربة للإمبراطورية، كانت تتألف بشكل كبير من أبناء نظام الدوشيرمة، الذين جاؤوا من خلفيات غير تركية. هؤلاء الجنود أصبحوا قادة الجيش، وفي كثير من الأحيان، حكاماً فعليين للإمبراطورية.
هذا النموذج الإداري، رغم نجاحه في استيعاب التنوع العرقي والديني، أدى إلى إضعاف الهوية التركية داخل مؤسسات الدولة. لقد أصبحت الإمبراطورية العثمانية كياناً فوق العرقيات، يقوم على الكفاءة والانتماء للإمبراطورية نفسها، وليس لعرق معين.
قد يبدو هذا الطرح غريباً لمن اعتاد التفكير في العثمانيين كرمز للهوية التركية. لكنه في الواقع يعيد قراءة التاريخ بشكل أكثر دقة وواقعية. الإمبراطورية العثمانية كانت إمبراطورية عالمية بامتياز، تعتمد على كل من يستطيع خدمتها، وتصنع النخبة من أصول متعددة. هذا ما جعلها تستمر لستة قرون، وهذا ما يجعلها أيضاً حالة فريدة لا تشبه الدول القومية التي ظهرت في القرن التاسع عشر.
إقرأ أيضاً: أوجلان... ميلاد جديد من القيود إلى الأسطورة
إذا أردنا فهم هذه الإمبراطورية على حقيقتها، فعلينا أن نخرج من إطار الروايات القومية الحديثة. العثماني الحقيقي لم يكن دائماً من يحمل الاسم التركي، بل كان من يعيش في قلب النظام ويصنع قراراته. في هذا السياق، يصبح من الواضح أن الدولة العثمانية كانت أكثر تعقيداً من أن تُختزل في هوية واحدة. إنها قصة متعددة الطبقات، لا تزال تحمل في طياتها الكثير من الأسرار التي لم يُكشف عنها بعد.
ربما آن الأوان لأن نعيد النظر في تاريخ هذه الدولة، لا كرمز قومي، بل كإمبراطورية شاملة، كان نجاحها قائماً على التنوع، وكان سقوطها مرتبطاً بعدم قدرتها على الحفاظ على هذا التوازن الهش بين الأعراق والطبقات.
التعليقات