في زمن الحرب، ينتقل دور الإعلام من مجرد وسيلة لنقل الأخبار وتغطية الأحدث ومواكبة المستجدات على أرض الميدان إلى دور حقوقي يوثق الجرائم والانتهاكات، هنا يصبح المراسل في قلب الحدث هدفاً عسكرياً، شأنه شأن حامل السلاح. فالصورة التي بإمكانها أن تخترق القلوب وتوحد المجتمعات ضد ما تفعله قوات الاحتلال الإسرائيلي، أشد وقعاً وفاعلية من الرصاصة التي تخترق الأجساد أو الجدران في ميدان الحرب.

وسط قصف مستمر يستهدف الحجر والبشر والشجر، تبدو مهمة الصحفيين في قطاع غزة أشبه بموعد يومي مع الموت، بعد أن تحولت الخوذة والسترة الواقية التي تميز ناقلي الحقيقية عن غيرهم من المدنيين الآخرين من وسيلة حماية إلى علامة مميزة تسهل المهمة لجنود الاحتلال لاقتناصهم، ولا عجب في أن يتحول الصحفيون إلى أهداف رئيسية لما ألحقوه من ضرر بسمعة إسرائيل ورواية رئيس وزرائها بينامين نتنياهو، التي يزعم فيها أنَّ جيشه يمارس حرباً في منتهى الأخلاقية في غزة.

منذ بداية الحرب إلى يومنا، استهدفت إسرائيل مئة وستة صحفيين في انتهاك صارخ للمادة 79 من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية جنيف 1949 لحماية المدنيين بالنزاعات العسكرية، والتي تنص على أنَّ الصحفيين المدنيين الذين يؤدون مهماتهم في مناطق النزاعات المسلحة يجب احترامهم ومعاملتهم كمدنيين، وحمايتهم من كل شكل من أشكال الهجوم المتعمد، شريطة ألا يقوموا بأعمال تخالف وضعهم كمدنيين. يكشف هذا الاستهداف الممنهج للصحفيين بهذا العدد غير المسبوق في تاريخ الحروب الحديثة أنَّ اسرائيل، التي لا تعترف باللوائح والقوانين الأمميَّة، قد وضعت مهمة القضاء على ناقلي الحقيقة ضمن أهدافها في حربها ضد حماس وقطاع غزة.

الانتقام الإسرائيلي من الصحفيين ذهب إلى أبعد الحدود عندما استهدف عائلاتهم، في محاولة لإجبارهم على التراجع، لكن هذا ارتد ليتحول إلى دافع قوي يرفع من عزيمة وإصرار الصحفيين للمضي قدماً في نقل وحشية الحرب وواقع الغزيين الأليم. اكتسب الصحفيون بعد كل ما حدث لذويهم والمقربين منهم دافعاً قوياً لاستكمال المهمة النبيلة، وقد كان لهم الفضل في رفع مستوى الوعي لدى المجتمعات الغربية البعيدة عن سخونة الأحداث في قطاع غزة، وتمكنوا من كسر البروباغندا الإسرائيلية التي غزت الإعلام الغربي الذي اختزل طوفان الأقصى في مسألة دفاع شرعي تمارسه إسرائيل عن وجودها.

إقرأ أيضاً: إسرائيل وأميركا أفضل من إيران وحماس

مستفيدة من إمكانياتها الكبيرة وقربها من المشهد الفلسطيني في غزة، قدمت الجزيرة في حرب غزة تغطية تستحق الإشادة، مع أنه يصعب نكران وجود العديد من السقطات كالتحيز التام لحماس ومحاولة طمس جميع الأصوات المعارضة لخيار طوفان الأقصى من داخل قطاع غزة. وعلى العموم تمكنت القناة من أن تنقل الصورة الأكثر تأثيراً والأكثر قرباً من تفاصيل حياة الغزيين في خضم المعركة الدائرة، وأن تتحول إلى مصدر أول للمستجدات الميدانية بحكم تواجدها على الأرض بشبكة من الصحفيين المتميزين، الذين نقلوا وعايشوا القصف، كما تمكنت من خلال تغطيتها على مدار الساعة أن تقرب المشاهد العربي وتجعله مرتبطاً بالحدث، رغم اختلاف المصادر وتنوع اتجاهاتها. وكان ثمن ذلك باهظاً باستشهاد سامر أبو دقة واستهداف عائلات العديد من الصحفيين على غرار وائل الدحدوح، والذي أصر على استكمال المسيرة رغم الأثر النفسي الذي ألحقه به خسارة زوجته وولديه.

إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟

وبعيداً عن الحرب الدائرة في غزة، ثمة مواجهة أخرى تجري على ساحات افتراضية قربت المشهد أكثر فأكثر من المشاهد العادي، وجعلته يتلقى كماً هائلاً من المعلومات المتعلقة بالحرب قد يكون بعضها صحيحاً والبعض الآخر مغلوطاً، وبعد أن أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً من حياتنا، امتد دور الحرب النفسية من ميدان الحرب إلى المتلقي البعيد عن ميدان المواجهة، وأصبح من السهل التأثير في الرأي العام باستعمال وسائل وتقنيات حديثة وأسلوب خطاب يتمكن من التأثير على مشاعر المتلقي وهو ما يجعل استقطابه أمراً يساهم في تضخم البروباغندا إلى أن تصبح حقيقة، إلى جانب هذا تستفيد إسرائيل من غياب المنصات العربية الداعمة للمحتوى الفلسطيني وتستفيد أيضاً من التضييق الذي تمارسه المنصات الأخرى، لتحكم قبضتها على المشهد، وهنا يبرز التحدي الأكبر للإعلام العربي الذي لا بدَّ له من أن يوظف قاعدته الجماهيرية من أجل كسر التضييق الذي تمارسه ميتا ضد المحتوى الفلسطيني، وأن يوجه الجماهير إلى منصات أخرى بإمكانها أن تحل محل فيسبوك وإنستغرام في نقل المعلومة والخبر.