ما ذنب الأطفال الذين يولدون تحت نيران الحروب وأصوات المدافع؟ ما ذنب الأطفال الذين يعيشون ويترعرعون مع الحرمان والدموع والأمراض ونقص الغذاء والدواء؟ ما ذنب الأطفال الذين تتشبع عقولهم منذ نعومة أظفارهم بأفكار الكراهية والحقد والانتقام؟ هل قدرهم في الحياة أن يعيشوا ما تبقى من أعمارهم معاقي الأذهان، يدفعون ثمن نشأتهم الخاطئة التي لم يكونوا هم سببًا فيها؟ هؤلاء هم غالبية أطفال شعوب المنطقة: إما حروب أو حرمان أو غسيل أدمغة، وعندما يكبرون سيقعون حتمًا في أحضان الجريمة أو يصبحون قطيعًا يُقاد من قبل هذه الجهة أو تلك، أو مشاريع للموت، أو كما يسمونه "الشهادة"، أو إرهابيين، أو يحيون حياة بلا طموح، أو ضحايا لتجارة الجنس والمخدرات، لأن ذلك هو كل ما تنتجه ظروف الحياة التي يعيشونها.
في الوقت الذي يصبح فيه أطفال المجتمعات الأخرى علماء ومفكرين وقادة وأكاديميين، يتنعمون بحلاوة الحياة، يتنقلون بين الكواكب ويسبرون أغوار الفضاء، نجد أنفسنا عندما نقارن تلك المجتمعات بمجتمعاتنا نلوم أنفسنا ونستحي من المقارنة، ونظن أنَّ الأفضلية الفطرية التكوينية لهم، وننسى البدايات السيئة التي عاشها أطفالنا، الذين هم اليوم شباب هذه الأمة، وأنَّ تخلفهم وضياعهم اليوم هو نتيجة طبيعية لما عاشوه بالأمس.
فلنتخيل هؤلاء الإرهابيين وهؤلاء القطيع المتخلف، الذين صاروا الأغلبية المطلقة في المجتمع، يتزوجون وينجبون جيلًا جديدًا، كيف سيكون هذا الجيل الجديد وكيف سيتربى؟ بالتأكيد ستكون مناهج تربيتهم هي الحرص على السير بمسلك الآباء، والسيئ لا ينتج إلا الأسوأ. هذه هي الطريقة العلمية التي يجب النظر بها إلى مآسي وتردي أوضاع مجتمعاتنا المبتلية بأفكار غير سليمة، خارجة عن الواقع، وقيادات عنيفة تريد إخضاع عقول الناس بالقوة، وخاصة الأطفال، لأفكار عقيمة فاشلة.
علينا أن ننظر لهذه الجراح بتمعن كي نكشف الحقائق المخفية عن الناس، ونكشف لهم مسببات الموت الرخيص للإنسان في هذه الديار، ونكشف لهم ماذا جلبت لنا ولأبنائنا تلك الدفعات من المصائب التي لا تنقطع سيولها الجارفة عن مجتمعاتنا، كي يعرف الناس أن القادة في ديارنا ليسوا الأكثر ذكاءً، وليسوا الأكثر أهلية للقيادة، بل هم الأكثر دموية وتطرفًا وانحرافًا وجهلًا.
إقرأ أيضاً: رسالة إلى الفاسدين
جميع دول العالم تسعى لوضع خطط وبرامج علمية لمستقبل الطفل، لأنه هو الأمل وهو المستقبل وهو طعم الحياة، بينما أطفالنا بلا خطط ولا مناهج، كالخراف تُربّى لتُذبح في سبيل الأمة أو لعيون المبادئ والحزب والقائد. فما نراه الآن من تفوق كبير للدول المتقدمة هو ثمرة أتعاب آبائهم وقاداتهم في بناء الطفل، وما نراه من تخلف وضعف وضياع الطفل في مجتمعاتنا هو نتاج الظروف العصيبة التي عاشتها بفضل إصرار وتخلف من كانوا يدّعون أنهم رعاة هذه الأمة وشرفها.
هؤلاء الآباء والقادة المتخلفون يغررون الناس بالشعارات الفارغة، ويفرضون وصايتهم في تربية الأبناء دون وجه حق، ويستحوذون على عقول البسطاء والصغار بإجحاف. فها هي أمامنا ثمرة أتعاب الشعوب التي قدست الطفل وأعطته الأولوية في كل شيء، وها هي ثمرة أفعال هؤلاء الباحثين عن المبادئ الفارغة، المتخلفين المهملين مع أطفالهم.
هذه المعادلة من الصعب جدًا استيعابها ومعرفة من كان السبب وراء كل هذا التردي والانحلال، فنفس جيل الآباء لم يكونوا يعرفون أنهم أيضًا ضحايا أفكار عقيمة وظروف غامضة مرت عليهم. هذا الطفل الذي يفقد أباه في "معارك التحرير" و"جبهات المقاومة"، كما يحلو لهم تسميتها، ويعيش بلا أب، سينشأ نشأة ناقصة، سيعاني ويضطرب وينظر إلى المجتمع على أنه هو السبب. فما بالك لو وجد عشرات الآلاف مثل هذا الطفل في كل بيت، في كل شارع، في كل حي، كيف سيصبح حال المجتمع؟
إقرأ أيضاً: سيدة لبنانية تحمل صورة…
من غير الصحيح اعتبار المجتمعات الغربية متفوقة بالفطرة، فالناس سواسية في الخلقة، ولكن الاهتمام والتربية الصحيحة والأجواء المثالية تصنع الفارق. ساداتنا وكبراؤنا ما زالوا ينظرون بحرص إلى "حق الله"، وينظرون بحرص إلى "حق الوطن" و"حق الحزب والقائد"، وينظرون بحرص إلى "حق الأمة والمبادئ" على أنها حقوق واجبة علينا الإيفاء بها، ولا أحد منهم يستطيع أن ينظر إلى "حق الأطفال" في العيش الكريم والبناء القويم ولو بجزئية.
في النهاية، الكل يدفع فاتورة الويلات والآلام التي تتساقط على رؤوس هؤلاء الصغار الأبرياء. لعلهم يدركون يومًا أن أكبر جريمة ارتكبوها في حياتهم هي سلبهم ابتسامة وضحكات الأطفال عنوة وأمام مرأى التاريخ، الذي سيلعنهم بلا رحمة. فهم يقتلون أمة بأكملها بقتلهم ابتسامة الطفل، ظنًا منهم أنهم يرضون الرب!
التعليقات