الاتفاقية الموقعة بين قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، السيد مظلوم عبدي، ورئيس الجمهورية العربية السورية، السيد أحمد الشرع، الذي كان قائداً لهيئة تحرير الشام، تفتح الباب أمام نقاش سياسي عميق حول مستقبل الإدارة الذاتية ودورها في سوريا القادمة.
لأول مرة في تاريخ الحركة الكردية، لا يقتصر الأمر على مجرد الاعتراف بالكرد، بل يتم التوصل إلى اتفاق على مستوى الدولة السورية، وهو تحول سياسي بالغ الأهمية، ورغم أن هذه اللحظة لا ترقى إلى مستوى القضية الكردية ولا تعكس حجم التضحيات المبذولة، إلا أنها تمثل إنجازاً سياسياً بارزاً، وإثباتاً لواقع لا يمكن تجاهله بعد الآن.
لطالما أكدتُ أنَّ الثقة بالذات، والإيمان بالقدرات والإمكانات الذاتية، هما المفتاح لتحقيق المكتسبات السياسية، فعلى الرغم من التهميش المتعمد طوال القرن الماضي، أثبت الكرد، شعباً وحراكاً سياسياً، قدرتهم ليس فقط على المطالبة بحقوقهم، بل على الوصول إلى مستوى يُمكّنهم من المشاركة الفاعلة في بناء الدولة وإدارتها.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج عقود من النضال والتضحيات، ودليل على أنَّ الحضور الكردي لم يعد مسألة خلافية قابلة للتفاوض، بل أصبح واقعاً سياسياً يجب على الجميع التعامل معه بجدية، كحقيقة ثابتة لا يمكن الالتفاف عليها أو تجاوزها.
رغم ذلك، فما تم اليوم ظهور ثمانية بنود عامة، بقدر ما حملت من تطمينات، أثارت الشكوك داخل المجتمع الكردي، فلا يمكن لالتزامات بهذا الحجم أن تبقى مبهمة دون تفاصيل واضحة تحدد آليات التنفيذ والضمانات المرتبطة بها. لا شك أن هذه البنود إما أنها تحمل في طياتها تفاصيل سيتم دمجها لاحقاً في الدستور السوري القادم، أو أنها تُركت عمداً مفتوحة لتظل مرنة أمام التفاوض السياسي.
إقرأ أيضاً: إهانة للبيت الأبيض باسم السلام
وربما كان تجنب الخوض في التفاصيل مقصوداً، استناداً إلى مبدأ أنَّ "الشيطان يكمن في التفاصيل"، حيث قد تؤدي الصياغة الدقيقة إلى فتح المجال أمام المتربصين لاستغلال الثغرات، وتأجيج الانقسامات، وإفشال الاتفاق قبل أن يرى النور، لكن في المقابل، فإن الغموض يفتح الباب أمام التأويلات المتضاربة، ويجعل الاتفاق هشاً أمام المتغيرات السياسية، ما قد يجعله مجرد اتفاق مرحلي لا يضمن استقراراً طويل الأمد.
في ضوء هذا التطور، من الضروري إعادة النظر في موقع الإدارة الذاتية، والأطراف الأخرى من الحراك الكردي، داخل هذه المعادلة، فالسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه:
أين هي الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي والأطراف الكردية الأخرى من هذه الاتفاقية؟
هل كانت قسد تدير المنطقة سياسياً، أم أنها كانت فقط تؤدي دوراً عسكرياً لحمايتها من التنظيمات الإرهابية؟
قبل شهر، طرحتُ أهمية الفصل الواضح بين قوات قسد العسكرية والإدارة السياسية، وطالبت أن تكون تابعة للإدارة الذاتية وليست منافسة لها أو تهيمن على مقدراتها، أي بمعنى آخر، ضرورة أن يكون هناك فصل بين قسد كقوة عسكرية، وبين الإدارة الذاتية ككيان سياسي ومدني، هذه الجدلية تقودنا إلى تساؤل أكثر جوهرية:
هل تخضع مناطق الإدارة الذاتية لحكم عسكري أم لسلطة مدنية؟
إقرأ أيضاً: كيف ابتلعت العروبة شعوبًا وحضاراتٍ بأكملها؟
السيد مظلوم عبدي، بصفته قائداً عسكرياً، يمتلك شرعية التفاوض في البعد العسكري، لكنه لا يملك صلاحيات اتخاذ قرارات سياسية أو إدارية بحجم توقيع اتفاقيات تؤثر على مستقبل الإدارة الذاتية، أو كتابة الدستور، إلا إذا تم تعيينه كرئيس للإدارة الذاتية كما تم مع أحمد الشرع.
فهل تمت الاتفاقية باسمه كقائد عسكري، أم باسم الإدارة الذاتية؟
إذا كان توقيع الاتفاقية تم بصفته ممثلاً للإدارة الذاتية، فالأمر يفرض ضرورة تعيينه رئيساً رسمياً للإدارة الذاتية لضمان وضوح الصلاحيات والتوجهات السياسية.
لا يمكن تجاهل أن الاتفاقية تمت تحت إشراف أميركي مباشر، وبتنسيق مع قوى إقليمية مثل تركيا وبعض الدول العربية والكردستانية.
هذا يدل على أن الولايات المتحدة لا تزال ترى في قوات قسد ركيزة أساسية في استراتيجيتها في سوريا، وأنها ليست بصدد التخلي عنها بسهولة. فالحديث عن انسحاب أميركي من سوريا كما حصل مع القوات الروسية وترك المجال مفتوحاً لتركيا، يبدو غير واقعي في هذه المرحلة، لأن ذلك سيؤثر على مصالحها وأمن حلفائها، بما في ذلك أمن أوروبا وإسرائيل.
إقرأ أيضاً: كيف تستهدف تركيا استقرار غربي كوردستان؟
رغم وجود نقاط إيجابية في الاتفاقية، مثل وقف الحرب والحد من الاعتداءات التركية على المناطق الكردية، إلا أن بنودها العامة والمبهمة تثير الكثير من المخاوف.
فمثلاً، الحديث عن "حق المواطنة" دون معرفة تفاصيل الدستور القادم، لا يرقى إلى مستوى تطلعات وتضحيات الشعب الكردي، المكون الثاني في سوريا، وخاضوا صراعاً طويلاً ضد النظام البعثي لتحقيق مطالبهم، المواطنة الحقيقية لا تعني فقط الاعتراف بوجود الكرد، بل تتطلب نظاماً فيدرالياً لا مركزياً، كضمانات دستورية تكفل حقوقهم السياسية والثقافية والإدارية.
أحد أخطر التحديات التي قد تنجم عن هذه الاتفاقية هو إمكانية تغلغل الفكر الإسلامي المتطرف داخل المؤسسات والمراكز التعليمية، هذا يشكل تهديداً مباشراً لنهج الإدارة الذاتية المبني على التعددية والعلمانية والتنوع الثقافي. من هنا، فإن التساهل في هذا الجانب قد يؤدي إلى صدام كارثي بين قوى الإدارة الذاتية، بل والحراك الكردي بشكل عام وخاصة الحراك الثقافي وهذه الأيديولوجيات المتطرفة، مما قد يهدد استقرار المنطقة على المدى الطويل.
رغم المخاوف، تحمل الاتفاقية بعض الإيجابيات، وأهمها وقف الحرب، وهو ما قد يجبر تركيا وأدواتها على تقليل الاعتداءات على المناطق الكردية، كما أن سيادة الدولة السورية ستشمل المؤسسات والمعابر الحدودية، لكن الإدارة الذاتية ستبقى الجهة المسؤولة عن إدارتها، ومع ذلك، من الضروري ضمان أن تكون الكوادر التي تدير هذه المؤسسات من أبناء المنطقة الكردية، وليس شخصيات مفروضة من خارجها.
الاتفاقية تعني فعلياً أن الإدارة الذاتية ستستمر في إدارة المنطقة، ولكن هذه المرة تحت المسمى الرسمي للدولة المركزية، ومع أن البنود تبدو فضفاضة، إلا أنه من غير المرجح أن يتم فرض شخصيات من خارج المنطقة على المناصب الإدارية، حتى وإن كان هناك حديث عن الاعتماد على الكفاءات. فالمناطق الكردية تمتلك من الكفاءات ما يكفي لشغل مواقع المحافظين ومدراء المناطق وغيرهم.
الفترة الزمنية المحددة لتطبيق البنود خلال عام واحد، تبدو أكثر ملاءمة للحكومة المركزية منها للإدارة الذاتية أو حتى لقوات قسد، فخلال هذه الفترة، قد تسعى الحكومة المركزية إلى تعزيز سيطرتها على المنطقة تدريجياً، مما قد يضع الإدارة الذاتية أمام تحديات جديدة في الحفاظ على مكتسباتها.
إقرأ أيضاً: سلاح جديد في معركة تركيا ضد أكراد سوريا
لا يمكن تجاهل أن هذه الاتفاقية أتاحت لهيئة تحرير الشام التخلص جزئياً من تصنيفها كمنظمة إرهابية، خاصة بعد المجازر التي ارتكبتها في المناطق العلوية، والتي كادت تؤدي إلى إدانة دولية في مجلس الأمن. هذا الاتفاق قد يكون وسيلة لتخفيف الضغط الدولي عنها وإعادة تأهيلها كطرف سياسي، رغم أنها لا تزال تمارس السلطة عملياً حتى بعد إعلان حلّ نفسها نظرياً.
رغم كل هذه التطورات، لا تزال فكرة النظام الفيدرالي والإدارات الذاتية الموسعة في سوريا محل جدل، ولم تعد قضية تهم الكرد فقط أو قسد، بل باتت مشروعاً مشتركاً لقوى ومكونات أخرى داخل سوريا، فهناك قوى داخلية تسعى إلى إعادة تشكيل الدولة السورية على أسس جديدة، تضمن عدم العودة إلى المركزية المطلقة التي كانت أحد أسباب انهيار الدولة.
هذه الاتفاقية، بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات، تضع الكرد بشكل عام والإدارة الذاتية بشكل خاص أمام تحدٍ وجودي، فإما أن تستغل هذه الفرصة لتحصين مكانتها داخل الدولة السورية الجديدة، أو أن تجد نفسها مستنزفة بين الضغوط الإقليمية والدولية، وفي كل الأحوال، فإن مستقبل الكرد في سوريا سيعتمد على قدرتهم على تحويل هذا الاتفاق إلى نقطة انطلاق نحو شراكة حقيقية، تضمن حقوقهم السياسية والإدارية والثقافية، على مستوى نظام فيدرالي، بدلاً من أن تكون خطوة لتهميشهم داخل الدولة المركزية.
التعليقات