كم مِن أقنعةٍ زائفةٍ تُعلَّق على جدران التاريخ، تُلمَّع ببراعةٍ لتمحو خلفها دماء الماضي القريب وتشوُّهاته!

أناسٌ مجرمون ذباحون إرهابيون كالجولاني وعناصر العصابات الإرهابية يُزيَّنون بأردية البطولة والوطنية والإنسانية، وكأنهم أسياد النور وملائكة الرحمة، بينما في قلوبهم ظلامُ الخيانة والإجرام والقسوة، وفي أياديهم وَحلُ الفتنة وخنجر الغدر وقطرات الدماء.

يبيعون الوهم للجماهير العطشى للحُلم الذي عسى ولعل يغير أوضاعهم من حال إلى حال، فيُغيِّبون الحقيقة تحت أضواء الزيف؛ ويستبدلون السيء بالأسوأ.

لكنّ التاريخ لا يرحم، فسرعان ما تنكشف الأقنعة، ويبقى الحقُّ شاهداً على أنَّ البطل الحقيقي هو مَن يُضيء طريق الأمة بالفكر والسلام والبناء والتحدي والإعمار ومقارعة الأعداء، لا مَن يزرع فيها شوك الخصام والقتال والنزاع. وينثر فيها بذور الشر والعنف والطائفية والعنصرية والعمالة والخيانة والتفرقة.

مهما جدت واجتهدت وسائل الإعلام العربية والتركية وغيرها لتلميع صورة الجولاني وإضفاء الشرعية على العصابات والفصائل الإرهابية، باءت محاولاتهم بالفشل، وكشف الله زيفهم ودجلهم وتخبطهم، وأزاح الستار عن طائفيتهم المقيتة، فتزيين الكلمات وإلقاء الخطب والشعارات لا يغير من الحقيقة شيئاً؛ إذ يعتقد هؤلاء أن خلع الجولاني لعباءة الإرهاب والدماء القصيرة واستبدالها ببدلة رسمية؛ سيمحي جرائمه من الذاكرة ويغير حقيقته ويحول معدنه الرديء.

وهذه نتف مختارة من خطب وتصريحات وكلمات الجولاني وعناصر عصابته والتي تتناقلها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي والتي تكشف تخبط القوم واضطرابهم وتصنعهم، وتسلط الأضواء على حقيقتهم ومخططاتهم؛ والآن نتجول معكم بين سطور خطاباته المتهافتة وتصريحاته التافهة:

إذ قال في أحداث مدينة حمص، عندما كان الأسد رئيساً: "نعيش اللحظات الأخيرة لتحرير مدينة حمص، هذا الحدث التاريخي الذي سيفصل بين الحق والباطل، ونوصي إخواننا المجاهدين كما أوصيناهم في السابق، أن يعطفوا على الناس، ومن ترك سلاحه يأمنوه، ومن فر فلا يدركوه"، وعندما نجمع خطابه الأخير حول أحداث الساحل السوري مع الخطاب السابق: "أيها الفلول إننا في معركة التحرير قاتلناكم قتال الحريص على حياتكم رغم حرصكم على مماتنا، نحن قوم نريد صلاح البلاد التي هدمتموها ولا غاية لنا بدماء أحد"، وبملاحظة الأحداث الواقعية والانتهاكات والتجاوزات الخطيرة على أرض الواقع، نخرج بالنتيجة التالية: هذه الخطابات والأخرى المشابهة التي يتشدق بها الجولاني وزمرته؛ تذكرنا بالخطابات الظلامية البائسة التي تحول الكلمات إلى شظايا عتيقة في زمن النور والعلم؛ ففي زوايا التاريخ المنسية، تعيشُ بعضُ الحركات المتطرفة كالقاعدة وداعش وهيئة تحرير الشام والوهابية ومن لف لفهم على ركام خطابٍ بالٍ، يُعيد إنتاجَ سردياتٍ دينيةٍ مُحرَّفةٍ، تختزلُ الدين في سيفٍ وقَمعٍ وذبح ونحر وغدر، وتُحوِّلُ الفِكرَ إلى سجنٍ من العُزلة والكراهية؛ إنَّها حركاتٌ ترفضُ أن ترى العالم إلا مِن خلال نصوصٍ تُفسَّرُ بمنطق القتل، وتاريخٍ يُقرأُ بمنظار الدم.

هذا الخطابُ التكفيري، الذي يرتدي عباءةَ "الجهاد"، ليس سوى وَهمٍ كبيرٍ: وَهمُ التفوق الأخلاقي، وَهمُ احتكار الحقيقة، وَهمُ إمكانية عودة القرون الأولى إلى عصرٍ انفتحت فيه الأرضُ على كل الأصوات...؛ إنَّه خطابٌ يعيشُ في زمنٍ موازٍ، يَستدعي مفرداتٍ من عصر "الفتوحات" و"الخلافة" و"الولاء والبراء"، لكنه ينسى أنَّ البشرية اليوم ترفضُ أن تُحاكَمَ بمنطقِ القرن السابع، أو أن تُحاصرَ بفتاوى الموت.

إنها الأكذوبة الكبرى؛ يدَّعي هذا الخطابُ أنَّه "يُحرِّر" البشرَ مِن ضلالهم، لكنه في الحقيقة يَصنعُ أغلالًا جديدةً: أغلال الخوف، وأغلال التكفير، وأغلال العُزلة عن العالم، وأصر الطائفية المقيتة؛ إنَّ شعاراتِهم التي ترفعُ "الجهاد" هي ذريعةٌ لتمرير مشروعٍ سياسيٍّ دمويٍّ، يَستغلُّ الدينَ لتحقيق مكاسبَ سلطويةٍ، ويُحوِّلُ المُختلفَ معه إلى "عبدٍ" يجبُ قتلُه أو إخضاعُه أو سبيه وبيعه.

إقرأ أيضاً: رحلوا السوريين من العراق فورا‎ً

وعلى الرغم من الماكينة الإعلامية العربية والتركية الكاذبة والمدلسة والتي تعمل على تغييب الحقائق والوقائع وإسدال الستار على النزاعات والانتكاسات والانتهاكات والتجاوزات، وتبييض صفحة الجولاني وعصاباته الدموية السوداء؛ لم تعد الجماهيرُ تُصدِّقُ أنَّ التكفيرَ طريقٌ للخلاص، وأن الإرهاب درب للتنمية والتحرير؛ بعد أن رأت بأمِّ عينها دُمويَّةَ هذه الجماعات بحقِّ الأبرياء من الشعب السوري؛ وقد فضحَت وسائلُ التواصلِ الاجتماعيِّ جرائمَهم، فتحوَّل "الجهاد" المزعومُ إلى مذابحَ ضد المدنيين، وفي قمة التهافت والنفاق والتناقض والرياء؛ يرفع بعض الإرهابيين والمجرمين شعار (بالحب بدنا نعمرها) ويقصدون بذلك تعمير سوريا والنهوض بها عن طريق الحب والبناء؛ إلا أنهم في قرارة أنفسهم يضحكون على سذاجة هذه الشعارات الخيالية والنظيفة؛ فهم ذئاب وإرهابيون لا يعرف الحب طريقاً إلى قلوبهم القاسية، ومَن يطلب من هذه الشرذمة والعصابات الحُب والسلم والأمن والأمان، كمن يطلب من الذئاب التوقف عن افتراس الخِراف!، وقد كشف أحد الفيديوهات المسربة عن مشهدٍ مُروِّع للإرهابيين وهم يرفعون شعار "بالحب بدنا نعمرها" مردِّدينه بسخرية، بينما يعتدون بالضرب المبرح بالبنادق والسياط على سوريين علويين أبرياء مُكدَّسين في إحدى السيارات كأنهم حمولة بشرية!

وأتساءل: بأيِّ منطقٍ يُحرِّر الجولاني سوريا؟! أيُحرِّرها بجماعات الأتراك والشيشان والقوقاز والأفغان والعرب المحتلين، أم بعناصر الشذوذ الفكري من الغرباء والأجانب؟! وأيُّ تحرير هذا الذي يقتل أبناء سوريا أنفسهم؟!، ويحررها من أهلها الأصلاء السوريين؛ لعمري، إنه لَعَجَبٌ يُذهِل العقول!

إنَّ مَن يجرؤ على قتل المسلم الصائم المُصلِّي من نفس مِلَّته، فكيف سيكون تعامله مع المخالفين؟! انظروا إلى تاريخهم الدموي حين ادَّعوا القتالَ والجهاد باسم "الدين"، ثم سفكوا دماء المُصلِّين في المساجد! إنَّ تناقضات هذه العصابات لا مثيلَ لها في العالم؛ حتى لو طلبتَ من الكذب والنفاق أن يتجسَّدا، لما وجدتَ أفضل من الجولاني وعصاباته الطائفية خير مثال!

إقرأ أيضاً: ما زال المغيب يقاتل؟!

إنَّ الخطاب التكفيري اليوم جثةٌ هامدةٌ تترنح في ساحة الحراك الإنساني، ومصيرُها إلى مزبلة التاريخ؛ تحاول العيش على أوهام الماضي وعقد الطائفية وتكلسات البيئات المتحجرة، لكن العالم يتقدَّم نحو قيم إنسانية ترفض أن تُختَزَلَ في سيفٍ أو فتوى؛ قد تعلو أصواتهم النكرة لوهلة عبر الشاشات، لكنها سرعان ما تذوب أمام رحابة الفكر وقوة الحجة وإصرار الشعوب على الحياة.

عند وصوله إلى دمشق، وجَّه الجولاني رسائل "طمأنة" هلاميةً إلى الداخل السوري، لكنها لم تُقنع سوى عناصر الإرهاب وقواعده التكفيرية، وبعض وسائل الإعلام العربية والتركية؛ ومن تناقضاته الصارخة قوله: "الأولوية لإعادة البناء، والوقت غير مناسب للحرب مع إسرائيل"، وادعاؤه أن "ظلم الأكراد سيزول بزوال الأسد"!، وكلُّها شعاراتٌ فارغة لا صدى لها على الأرض، خاصةً مع رفضه إشراك مكونات الشعب السوري (كالأكراد والدروز والمسيحيين والعلويين) في الحكم الانتقالي، مُتذرِّعاً برفض "المحاصصة" التي ينتقدها في العراق، وكأنَّ ضمان حقوق المكونات جريمة!

اليوم، تحتكر عصابته السلطةَ بيدٍ من حديد، وتستبعد حتَّى الفصائل التي شاركتهم جرائم الماضي!، ولم يُقدِّم الجولاني نموذجاً انتقالياً حقيقياً، بل عزَّز هيمنة "هيئة تحرير الشام" على المؤسسات، مُتجاهلاً دعوات الدمج، كما أكد الباحث السياسي محمد هويدي. والأغربُ تغاضيَه عن احتلال إسرائيل للجولان واستفزازاتها للمدنيين، بينما يتحوَّل إلى "سبع ضاري" حين يتعلق الأمر بالعلويين والأقليات!

إقرأ أيضاً: من ينقذ الشيعة والعلويين من الإبادة الجماعية في سوريا؟!‎

وفي سلسلة تناقضاته، طالب الجولاني السيدات السوريات بارتداء الحجاب، وتحدَّث وزير "عدله" عن ضرورة تطبيق الشريعة، ناكثين بوعودهم بحرية المعتقد والسماح بالحريات الشخصية والحياة المدنية؛ كما دعا إلى "حصر السلاح بيد الدولة" وتوعد بمحاسبة "كل من يتجاوز ضد المدنيين"، بينما تُمارس عصاباته أبشع الانتهاكات ضد المدنيين باسم "الأمن"!، إنَّ ما يُسمَّى "قوات أمن" اليوم مجرد مرتزقة أجانب (أتراك، شيشان، تركمان، أفغان، عرب، قوقاز) لا صلةَ لهم بسوريا، جاءوا لسفك دماء أبنائها.

وختاماً، تصريحه الأخير عن "معاملة أسرى فلول النظام"؛ إذ قال: "إني أوصيت القوى الأمنية والعسكرية بأن يحسنوا معاملة الأسرى من فلول النظام..."، يكشف عقليته العدائية وعقيدته التكفيرية العفنة؛ فالسوريون في نظره "أعداء" كفار يعاملون معاملة الأسرى، بينما تُسلَّط عصاباته الأجنبية على أبناء الوطن؛ فهل هذا هو "التحرير" الذي يعدون به، أن يصبح الشيشاني سورياً والسوري أسيراً؟!

ويستمر الجولاني بهذيانه المقرف وخطبه السمجة العتيقة...