تشهد الساحة السياسية في فرنسا، ومعها عدد متزايد من الدول الأوروبية، تراجعًا لافتًا في شعبية النخب الحاكمة وتآكلًا متواصلًا في الثقة الممنوحة لها من قبل المواطنين. لم تعد هذه الظاهرة مرتبطة بدورة انتخابية عابرة أو بقرار حكومي مثير للجدل، بل باتت تعبيرًا عن أزمة أعمق تمس جوهر العلاقة بين المجتمع والسياسة، وتطرح تساؤلات جوهرية حول قدرة النخب السياسية التقليدية على تمثيل تطلعات الشعوب الاوروبية في زمن التحولات المتسارعة.
في فرنسا، تتجلى هذه الأزمة بوضوح في اتساع الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي. فسنوات من القرارات الاقتصادية المؤلمة، وما خلفتها من تراجع للقدرة الشرائية، وارتفاع الشعور بعدم الاستقرار الاجتماعي، كلها عوامل عززت إحساسًا عامًا بأن القرار السياسي يُصاغ بعيدًا عن هموم المواطن اليومية. هذا الإحساس الذي كان سابقا يقتصر على الفئات الهشة، أضحى يمتد إلى شرائح واسعة من الطبقة الوسطى التي كانت تاريخيًا إحدى ركائز الاستقرار السياسي والاجتماعي. ومع تكرار الأزمات، بات كثيرون ينظرون إلى النخب السياسية بوصفها منفصلة عن الواقع، تعيش في دوائر مغلقة، وتدير الشأن العام بمنطق تقني أو بيروقراطي لا يستجيب لحاجيات وتطلعات للمواطن.
ويتزامن هذا التآكل في الثقة مع أزمة تمثيل واضحة. فالأحزاب السياسية التقليدية فقدت قدرتها على التعبئة، وتراجع الانتماء الحزبي لصالح مواقف احتجاجية أو مقاطعة، تُترجم غالبًا في نسب مرتفعة للامتناع عن التصويت. هذا السلوك الانتخابي يعكس شعورًا متزايدًا بأن المشاركة السياسية لم تعد أداة فعالة للتأثير، وأن تداول السلطة لا يؤدي بالضرورة إلى تغيير ملموس في السياسات العامة. وبدل أن تكون الانتخابات لحظة أمل وتجديد، أصبحت لدى فئات واسعة مجرد طقس مؤسسي لا يبدد الإحباط المتراكم.
على المستوى الأوروبي، لا تبدو الصورة مختلفة كثيرًا، وإن اختلفت السياقات الوطنية. ففي دول عدة، تشهد النخب السياسية انتقادات مشابهة تتعلق بالبعد عن القاعدة الشعبية، وبالعجز عن تقديم إجابات مقنعة لتحديات معقدة مثل الهجرة، والتحول البيئي، والتنافس الاقتصادي العالمي. هذا المناخ استغلته قوى سياسية كانت هامشية بالأمس واضحت تقدم نفسها اليوم بوصفها “بديلًا” عن النخب القائمة، مستفيدة من خطاب مباشر وبسيط، يَعِدُ باستعادة السيادة والإنصات إلى الشرائح المستاءة.
وتلعب البيئة الرقمية دورًا محوريًا في تعميق هذه التحولات. فوسائل التواصل الاجتماعي أعادت تشكيل العلاقة بين المواطن والسياسة، عبر تسريع تداول المعلومات، وكسر احتكار الخطاب، لكنها في الوقت ذاته ساهمت في انتشار السرديات العاطفية والمبسطة والمضللة احيانا. وفي ظل هذا الفضاء المفتوح، تجد النخب نفسها في مواجهة نقد دائم، وأحيانًا عنيف، يصعب احتواؤه بالأساليب القديمة في التواصل والإقناع.
ومع ذلك، لا يمكن اختزال هذا التراجع في الشعبية برفض للديمقراطية بحد ذاتها. فالكثير من المؤشرات توحي بأن المواطنين لا يعترضون على مبدأ الحكم الديمقراطي، بقدر ما يعبرون عن خيبة أمل من أدائه وقدرته على إنتاج سياسات عادلة وفعالة. فغالبيتهم تطالب بنخب أكثر قربًا وشفافية، وبقرارات واقعية وقابلة للمحاسبة، وبوعود لا تُطلق دون قدرة حقيقية على تنفيذها.
فتراجع شعبية النخب السياسية في فرنسا وأوروبا يضع أنظمتها الديمقراطية أمام اختبار مصيري. فإما أن تنجح هذه النخب في تجديد أساليبها، وإعادة بناء جسور الثقة مع المجتمع، والانخراط بصدق في معالجة المخاوف الاجتماعية والاقتصادية، أو أن يستمر التباعد، بما يحمله ذلك من مخاطر على الاستقرار السياسي وعلى مستقبل العقد الاجتماعي ذاته.













التعليقات