عام 1891، وقع وجهاء القدس مذكرة احتجاج على الهجرة اليهودية إلى فلسطين وبيوع الأراضي. وقد كانت هذه العريضة أول عمل عربي فلسطيني منظم ضد الأطماع الصهيونية في فلسطين. وفي عام 1910، وقعت الاشتباكات بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود في طبريا ويافا ومناطق الجليل، ثم هب الفلسطينيون في انتفاضة شاملة عام 1919 بعد قرارات مؤتمر فرساي الذي وضع فلسطين تحت الانتداب وضم الوكالة اليهودية إلى حكومة الانتداب.

عام 1924، لم يتمكن بلفور من زيارة الحرم القدسي الشريف وعاد إلى دمشق التي أحرقت جماهيرها الفندق الذي نزل فيه، وتم تهريبه إلى بيروت بحراسة مشددة. والحكاية تطول وتطول، لكن ما تقدم يُبين أن أحداً لم يفكر يوماً بأن فلسطين ليست لشعبها وأن بالإمكان التنازل عن بعض منها. ويعرف الجميع باقي الحكاية وتطوراتها إلى ما وصلنا إليه من حال. الآن نطلب بحصة تبدو مجرد وهم ونحن نتحدث عن وحدة الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة دون رابط، والقدس وقد تم تغييبها. ومع ذلك ننسى كل الوطن ونطالب بفتات لا معنى لربطها ببعض إلا أنه تم احتلاله في يوم واحد. فهل يكفي ذلك سبباً ليتم اختزال فلسطين بتلك الأرض التي احتلت في نفس اليوم، 5 حزيران (يونيو) 1967، ونسيان ما سبق؟

غزة اليوم باتت قضية أخرى، وفي الضفة ألف قضية، والقدس لم يعد أحد يأتي على ذكرها. ومع هذا، لا زلنا نطالب بما لن يكون أبداً ولا بأي طريقة، فالقوة العسكرية لا يمكنها استعادة القدس للضفة ولا ربط غزة معهما، وهذا يكفي بعد أن باتت السياسة وكفاح المفاوضات منذ أوسلو حتى اليوم بلا معنى ولا هدف ولا وجود حتى. فإلى أين نمضي؟

لماذا نوافق على التنازل عن ما هو ممكن لصالح شبه المستحيل، بعد أن تم إنجاز تهويد القدس وبات عدد المقدسيين العرب أقل من 40 بالمئة من مجموع السكان؟ وإذا استثنينا من هم خارج جدار الفصل العنصري، سينقص ربع العدد. ويجري تهويد الضفة بعد أن أصبح عدد المستوطنين يُقارب المليون، وحملة تهجير غزة لا زالت ماثلة للعيان ولم تتوقف مخططاتهم لذلك.

لم يطالب مواطنو جنوب أفريقيا بدولة للسود على جزء من أرضهم، ولا زالت الهند تحوي عديد القوميات والأديان، وكذا كندا وسويسرا. وقد قتل المتطرفون الهندوس المهاتما غاندي لأنه دافع عن المسلمين، بينما قتل المتطرفون السيخ أنديرا غاندي لأنها حاربت التطرف والنزعة الانفصالية لديهم، وقتل المتطرفون الصهاينة رئيس وزرائهم إسحاق رابين لأنه قدم تنازلاً للفلسطينيين.

منذ مقتل الزعيم الليبي وليبيا تعيش حروباً بينية لا يمكن لأحد أن يفهمها، بالرغم من التجانس الديني والعرقي في البلد، بينما تحولت القبلية اللعينة إلى سبب من أسباب الصراع. وفي حين انتهت الحرب العالمية الأولى بكل كارثيتها وتحولت العلاقات بين أطرافها إلى علاقات دافئة، حتى بين ألمانيا واليهود، لا زالت الصراعات دائرة في ميانمار مثلاً منذ استقلالها عام 1948 تقريباً دون توقف.

يصنف الصراع بين الفلسطينيين والحركة الصهيونية كأقدم صراع لا زال نشطاً حتى اليوم، ولا يبدو أن هناك آفاقاً للحل. ففي حين تصر الحركة الصهيونية حتى اليوم على إلغاء الشعب الفلسطيني، يواصل الفلسطينيون التخبط بحثاً عن مخرج، فتارة يقاتلون وتارة يتنازلون. وفي كل الأحوال يختلفون بينهم على أي حل ممكن لأكثر قضية واضحة في التاريخ؛ بحيث يُصر طرف على تحرير كل بلاده، ويوافق طرف آخر على القبول بما يمكن أن يحصل عليه ويعلن موافقته على القبول بدولة على حدود 1967 حتى لو كانت منزوعة السلاح.

أحد لم يقترح على الفلسطينيين ما أعلنوا موافقتهم عليه، "دولة على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967"، ومع ذلك لازال البعض ينتظر أن تقدم الولايات المتحدة حلاً مقبولاً عليهم، أو أن يفرض العالم مثل هذا الحل بالرغم من كل التذبذبات في المواقف الأميركية بالشأن الفلسطيني، والثبات شبه المطلق في دعم دولة الاحتلال بكل ما تسعى إليه. ويكفي أن نذكر إعلان ترامب عن القدس ونقل السفارة ودعم المقتلة ضد غزة وإطلاق اليد في الضفة.

الفلسطينيون الذين ينتظرون دولة من الولايات المتحدة يتناسون أن بايدن في زيارته لبيت لحم وعد الرئيس الفلسطيني بمنح الفلسطينيين حق استخدام الجيل الرابع للإنترنت قبل أكثر من ثلاث سنوات، ولا زال الوعد هذا حبراً على ورق. فهل يمكن لمن لم يمنح الإنترنت أن يمنح دولة؟ وقبل ذلك، سمعنا عن خرائط طريق وإعلانات رؤساء والتزامات لم يرَ منها النور حرف واحد، بما في ذلك قرارات الأمم المتحدة الأخطر وفي مقدمتها 194 و 181. فما الذي ينتظره الفلسطينيون من الولايات المتحدة أو حتى من العالم الذي ظل مكتوف الأيدي أمام المقتلة الأبشع في التاريخ الحديث في قطاع غزة، وبدل إدانة المعتدي والمحتل، أدان الضحية الذي مارس حقاً مكفولاً بالكفاح في سبيل نيل الحرية؟

السابع من تشرين الأول (أكتوبر) أعاد إلى الواجهة السؤال الأهم وهو: "ماذا نريد نحن كفلسطينيين؟ وأين هي حدود حقنا وكيف يمكننا الوصول إليه؟ وما هو موقف العالم من هذا الحق؟"

ماذا نريد؟ وأين هي حدود حقنا؟ وهل هي فلسطين التاريخية، الوطن الطبيعي للفلسطينيين منذ آلاف السنين، أم هي حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967، أم أقل من ذلك بكثير؟ وما هي الأسس التي نعتمد عليها في تحديد هذا الحق؟ ولماذا تنازلنا عن الحق الأصيل دون أن يطلب منا أحد التنازل؟ وما هي الأسباب التي جعلتنا نتنازل عن أفضل الشعارات والبرامج والأهداف، كهدف فلسطين علمانية أو ديمقراطية موحدة، وأيضاً دون أن يطالبنا أحد بذلك أو أن يعرض علينا بديلاً لذلك؟ وما هي الأسباب التي جعلتنا نضرب بعرض الحائط بكل حقوقنا بدءاً من الحق بكل أرضنا مروراً بقرار الأمم المتحدة 181 و قرار 194، حتى بات أحد لا يذكر هذين القرارين، وأصبح أوسلو الوهم هي أساس بلا أساس للحديث عن مستقبل قضيتنا؟

السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وضعنا أمام حقائق يجب أن لا نغفلها، وهي أن العالم الرسمي بأسره، ما عدا محور المقاومة، أدار ظهره لنا ولقضيتنا، بل إنه نسي كل الجريمة واعتبر هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إرهابياً، ونادى الجميع بحق دولة الاحتلال بالدفاع عن نفسها، متناسياً أن الأرض التي دخلت إليها المقاومة الفلسطينية هي أرض فلسطينية محتلة، ليس بالتاريخ فقط بل وحسب قرار الأمم المتحدة 181، وحسب خطوط الهدنة بموجب اتفاقيات 1949، وحسب نصوص ومبادئ الأمم المتحدة بشرعنة الكفاح ضد المحتلين بكل الوسائل بما في ذلك الوسائل العسكرية. ومع ذلك، انتفض العالم لمساعدة المحتل، وسكت عن الجريمة "المقتلة" عامين كاملين، وواصل إدارة ظهره للحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وفق مبادئ الأمم المتحدة وقراراتها.

عام 1956، لجأ كل من الاتحاد السوفياتي و الولايات المتحدة إلى إصدار إنذارين منفصلين ضد العدوان الثلاثي على مصر، مما أوقف العدوان فوراً. ووقفت كل الدول الغربية لتحارب روسيا إلى جانب أوكرانيا، واندفع العالم ليحارب العراق إلى جانب الكويت ولم يفعل ذلك مع إيران مثلاً، وتشكلت أحلاف لمحاربة اليمن والتدخل في شأنها الداخلي، وينتظم العالم ضد المقاومة اللبنانية إلى جانب مطالب الاحتلال فيطالب المقاومة بالكف عن أن تكون مقاومة ويترك إسرائيل تحتل أرضها علانية، وكذا يفعل في سوريا ويهدد في العراق. وفي حين يعرف العالم بنووية إسرائيل العدوانية، يُحرم على إيران فكرة المفاعل النووي للأغراض السلمية. وإلى جانب ذلك، نرى العالم يتعامل باستخفاف وكذب مع موضوعة الدولة الفلسطينية بعد أن تم تقليصها. فما الذي يمنعنا من العودة إلى حقنا الأصيل في كل بلادنا كما هي كل بلاد العالم؟ ويكفي أن نرى الفرق بين ما جاء في خطة ترامب من نص هزيل حول عدم سماحه بضم الضفة الغربية لدولة الاحتلال، وما يجري على الأرض من تهويد علني وضم على أرض الواقع.

إنَّ المسؤولية الوطنية توجب على جميع العاملين بالشأن العام، وفي المقدمة منهم أصحاب الفكر وصناع الرأي، أن يضعوا أساساً لبرنامج وطني فلسطيني واحد موحد لكل الشعب وقواه، يوضح بالإجماع الفلسطيني بالنسبة إلى ما إذا كنا سنواصل التنازل عن حقنا في بلادنا حتى ضياعها، أم نواصل النضال في سبيل إعادتها موحدة في الطريق إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية موحدة. ونماذج تلك الدول كثيرة، ومنها على سبيل المثال الدولة التركية التي تضم بين جنباتها أكثر من دين وقومية ويحكمها حزب إسلامي، ومع ذلك تصنف نفسها على أنها دولة مدنية وديمقراطية، كما أن نموذج جنوب أفريقيا لا زال ماثلاً للعيان، فقد استعاد السود وطنهم دون أن يلجأوا للانتقام أو الإلغاء.