لا يحتاج المرء إلى كثير من الخيال ليتصوّر حال الغزيين وهم يخوضون شتاءً بدأ فعلًا، ويحمل معه ما يكفي من القسوة لتذكيرهم بأنّ المعاناة لم تترك لهم متسعًا لالتقاط الأنفاس، في كلّ المؤشرات، أقسى من كل ما عرفوه من قبل. يكفي أن تمرّ على أطراف الملاجئ العشوائية، أو أن تُصغي إلى حديث أمّ تتوجّس من ليلة ماطرة، لتدرك حجم الفجوة بين ما يحتاجه الناس للبقاء وما هو متاح لهم فعلًا في قطاع أعياه الحصار والحرب والبرد الذي لا يرحم.
فالقطاع، المُنهك أصلًا من شهور طويلة من القصف والدمار، يقف على أعتاب عاصفة جوية مرتقبة يُتوقّع أن تحمل معها أمطارًا غزيرة وانخفاضًا حادًا في درجات الحرارة. كل ذلك فوق أرض لم تُشفَ بعد من جروحها المفتوحة: بنى تحتية عاجزة، شوارع لم تعد شوارع، ومنازل لم تعد منازل. ومع كل خبر عن تغيّر طارئ في حالة الطقس، يرتفع منسوب القلق بين السكان الذين لم يبقَ لهم من مقومات الصمود سوى أحلام مؤجلة وثياب لا تقي بردًا.
تعيش آلاف العائلات اليوم في خيام أو غرف بلا نوافذ، في بقايا أبنية لم تعد تصلح إلا كي تُسمّى "مأوى" تجاوزًا. وفي تلك الزوايا الرطبة، يجتمع الأطفال حول حرارة جسد أمّهم، بينما يقيس الآباء حجم العجز بعيون صامتة. فكيف يمكن لأسرة فقدت منزلها ومعيلها، وتعاني نقصًا في الغذاء والدواء والكهرباء، أن تستقبل شتاءً بهذه الوحشية؟
ووسط هذا المشهد الذي يتكرّر كل عام لكن بحدّة أكبر، يطفو سؤال لا يريد كثيرون سماعه: من يملك زمام الأولويات في غزة؟
فبينما تنبّه منظمات الإغاثة الدولية، ومعها سكان محليون، إلى وجود تقصير واضح في الاستعداد للشتاء وتوفير الحدّ الأدنى من الاحتياجات الإنسانية، تتّجه أصابع اللوم نحو حركة حماس التي يُقال إنّها تُعطي الأولوية لإعادة بناء قدراتها العسكرية: حفر أنفاق جديدة، تصنيع أسلحة، وترميم شبكات قتالية، بينما يبقى المدنيون عرضة للبرد والجوع والمرض.
لا أحد ينكر أنّ الحرب دمّرت ما دمّرت، ولا أحد يعفي الاحتلال من مسؤوليته عن الكارثة المستمرة. لكنّ ذلك لا يلغي سؤالًا بات يتقدّم على ما سواه: هل قامت الحركة فعلًا بما يلزم لحماية مجتمع يقف اليوم على حافة الانهيار الإنساني؟ فمع كل أزمة جديدة، تتّضح الفجوة بين ما يُقال في الخطاب السياسي وما يعيشه الناس في واقعهم اليومي. وليس الشتاء سوى اختبار إضافي لهذا التباين؛ إذ يُخشى أن يُعيد تظهير الحقيقة التي يحاول الجميع تجنّب النظر إليها: أن الشعارات الكبرى لا توفّر مأوى، وأن الحديث عن الصمود لا يقي أطفال المخيمات من البرد. وبين منابر السياسة وخيام النازحين، يظهر الفرق جليًا لمن أراد أن يرى.
تشير التوقعات إلى أن قطاع غزة مقبل على أحوال جوية قاسية قد تزيد من حجم المعاناة الإنسانية القائمة أصلًا. فالعاصفة المتوقعة ستنعكس بشكل مباشر على السكان الأكثر هشاشة، خاصة أولئك الذين يعيشون في مساكن متضررة أو في مراكز إيواء تفتقر إلى الحدّ الأدنى من شروط الحماية. ومع غياب البنية التحتية القادرة على استيعاب هذه الظروف، يظلّ الخطر الأكبر متمثلًا في عدم قدرة آلاف العائلات على مواجهة الأمطار الغزيرة وانخفاض درجات الحرارة، وهو ما يستدعي تدخلًا عاجلًا للحدّ من تدهور الوضع الإنساني.
ولعلّ أكثر ما يُخشى الآن هو أن يصبح الشتاء القارس عقابًا إضافيًا لسكان أنهكتهم الحرب، وأن تتحول العاصفة من ظرف عابر إلى فاجعة جديدة تضاف إلى سجلّ المآسي التي لم يتوقف تدوينها يومًا.
فحتى مع تراجع صورة إسرائيل أمام الرأي العام الدولي، لم ينعكس ذلك على حياة الناس في المخيمات، ولم يخفف وطأة الجوع أو يوقف سيل المعاناة. لقد انتظرت غزة طويلًا أن يتحرك العالم، لكنّ العالم اكتفى بالبيانات، وترك السكان وحيدين أمام برد لا يميز بين أحد.
ومن يراهن على أن المجتمع الدولي سيحمل الغبن عنهم، أو سيغيّر معادلة الصراع بقرارات عاجلة، إنما يكرر الخطأ ذاته: فالمشهد، كما هو، لا يوحي بتحول جذري، ولا يشير إلى اقتراب مشروع تحرير، بل يكشف فقط عن اتساع الهوة بين الواقع وما يقال عنه.



















التعليقات