تتعمّق المأساة الإنسانية في قطاع غزة يومًا بعد يوم، وتبرز معاناة الأطفال والرضع بصورة خاصة، في ظل شحّ الغذاء ونقص الحليب الصناعي. وبالرغم من أن الحرب هي العامل الأكبر في انهيار المنظومة المعيشية، فإن القرارات التي سبقت اندلاعها وكيفية إدارة تبعاتها لعبت دورًا لا يمكن تجاهله في تفاقم معاناة المدنيين، وفي مقدّمتهم الفئات الأكثر هشاشة.

فقد اختارت حركة حماس، في لحظة سياسية وعسكرية معقّدة، فتح جبهة واسعة دون تقدير حقيقي لحجم الكلفة الإنسانية التي يمكن أن يدفعها سكان غزة. وهكذا وجد المدنيون أنفسهم محاصرين بين حرب تدمّر البنية التحتية وقدرة المجتمع على الصمود، وبين إدارة داخلية عجزت عن حماية أساسيات الحياة أو ضمان وصول الإغاثة إلى مستحقيها.

لا يمكن قراءة ما يجري في غزة بمعزل عن القصف الإسرائيلي الواسع والسياسات التي قلّصت دخول المساعدات، لكن الصورة لا تكتمل دون الإشارة إلى أن الواقع القائم هو أيضًا نتاج إدارة مرتبكة داخل القطاع. فمع اشتداد الحرب، بدا أن الاهتمام انصبّ على الحفاظ على بنية الحركة نفسها، أكثر من معالجة الانهيار الحاصل في احتياجات السكان اليومية.

وفي هذا السياق جاءت الاتهامات التي نشرها الناشط أحمد فؤاد الخطيب عن تخزين أطنان من حليب الأطفال ومغذيات الرضع في مستودعات داخلية بدلًا من توزيعها، لتضيف طبقة جديدة من الغموض والقلق. ورغم أن هذه الادعاءات تحتاج إلى تحقيق مستقل، فإن توقيتها ووضع القطاع الصحي المتدهور جعلاها تحظى باهتمام غير مسبوق، خاصة مع تحذير مؤسسات حقوقية من نقص حاد في الحليب العلاجي والصناعي داخل المستشفيات.

إن خطورة هذه الاتهامات لا تكمن في مضمونها فحسب، بل في انعكاسها على علاقة سكان غزة بهيئات الحكم القائمة. فحين تقف الأمهات في طوابير بحثًا عن قطرة حليب، بينما تتردد روايات عن تخزين مواد مخصّصة للرضع، تتحوّل الأزمة من نقص غذاء إلى أزمة ثقة عميقة.

وإذا صحّت هذه الممارسات، فإنها تضع الحركة في موقع من يفاقم معاناة المدنيين بدل التخفيف عنها، وتحوّل الغذاء، أهم عناصر الحياة، إلى ورقة داخل سياق سياسي وعسكري مفتوح. ومع أن إسرائيل تحاصر القطاع من الخارج، فإن أي خلل في إدارة الموارد من الداخل يعمّق شعور السكان بأنهم محاصرون من جهتين في آن واحد.

منذ بداية المواجهة الأخيرة، ظهر أن المدنيين يُعامَلون في كثير من الأحيان بوصفهم جزءًا من معادلة الضغط السياسي، لا أصحاب حق أصيل في الأمن الغذائي والرعاية الصحية. وربما يعكس هذا الواقع فجوة كبيرة بين الخطاب الذي تتبنّاه الحركة عن الصمود والنصر وبين القدرة الفعلية على حماية المجتمع الذي تدّعي تمثيله.

وليس تحميل المسؤولية هنا موقفًا سياسيًا، بل محاولة لتوصيف واقع تدفع ثمنه الفئات الأكثر ضعفًا. فالأطفال الذين يواجهون سوء تغذية حاد لا علاقة لهم بقرارات الحرب، ولا بالمسارات السياسية التي تُدار فوق رؤوسهم. ومع ذلك، يجدون أنفسهم في قلب صراع لا يملكون قدرة على فهمه أو النجاة منه.

المؤسف أن هذه المؤشرات تعيد فتح نقاش قديم حول غياب آليات المحاسبة والشفافية داخل القطاع، حيث تتقدّم الانتماءات السياسية على أولويات الحماية الإنسانية. وفي ظل استمرار الحرب، يصبح أي تلاعب بالمواد الأساسية ولو بنسبة بسيطة مدمّرًا لحياة الآلاف، ويحوّل المساعدات إلى مادة للصراع بدل أن تكون وسيلة لإنقاذ الأرواح.

لقد حان الوقت لطرح تساؤلات جدّية حول كيفية إدارة القطاع في هذه الظروف، وكيف يمكن حماية السكان من الانهيار الكامل للمنظومة الإنسانية. فبين حماس التي اتخذت قرارات كلّفت غزة أثمانًا باهظة، وإسرائيل التي تواصل عملياتها العسكرية، يبقى المدنيون هم الحلقة الأضعف.

تختنق غزة اليوم بين احتلال يسعى إلى فرض وقائع جديدة على الأرض، وقيادة محلية اتخذت قرارات ذات كلفة عالية دون أن تتوفر لها القدرة على حماية المجتمع الذي تحكمه. ومع استمرار الحرب وامتداد المعاناة، يصبح السؤال الأهم: من يحمل مسؤولية إنقاذ من تبقى من الأطفال والرضع الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا في زمن حرب، وسقطوا بين حسابات السياسة وضرورات البقاء؟