كنت أتابع لقاءً تلفزيونياً مع شخصية سياسية نالت نصيبها من الدنيا وغرفت من المال الحرام حتى ارتوت بعد عام 2003، عام سقوط النظام العراقي السابق. هذه الشخصية كانت تتحدث بحوار دبلوماسي رصين وبثقة عالية بكل ما تم طرحه في اللقاء وبشعور منعزل عن الواقع في عالم المثاليات، وكانت ملامح وجهه تدل على البذخ وترف العيش. ونفس هذه الشخصية، أتذكر رأيتها في لقاء تلفزيوني بعد سقوط النظام السابق بأشهر معدودة، لم تكن ملامح النعمة ظاهرة بعد على وجهه، وكانت طروحاته في اللقاء القديم خالية من الدبلوماسية، مجرد كلام حزبي ثوري عاطفي على طريقة المعارضين السياسيين المطاردين المحرومين. أما اليوم، تبدو الأمور تغيرت بدرجة كبيرة، فقد انتفخت الأوداج وظهرت النعمة على ملامحه وجرت الأنهار من تحته وضحكت له الدنيا وأصبح يتحدث برزانة ومسؤولية وكبرياء، لولا المال لما تغير الحال.

هذا يذكرني بفيلم سينمائي أميركي قديم يحكي قصة صديقين من الأغنياء فاحشي الثراء بدرجة الملياردير، كانوا يقضون أوقاتهم بالمراهنات فيما بينهم. ففي إحدى الجولات الميدانية معاً داخل سيارتهما الفارهة أو الليموزين، توقفت السيارة عند إحدى التقاطعات في مدينة أميركية معروفة، لمح الثريان متسولاً شاباً من البشرة السوداء يستجدي المال عند التقاطع المروري. التفت أحدهما إلى صاحبه وقال له: "أراهنك على أنني أستطيع أن أجعل شخصية هذا المتسول أفضل من شخصية سكرتيرك الخاص الذي تعتمد أنت عليه في جميع أعمالك وتعتبره مثلك الأعلى لفرط ذكائه وقوة شخصيته، أستطيع فعل ذلك خلال ثلاثة أشهر فقط". فتعجب الثاني ثم قال: "هذا الشيء مستحيل وأنا مستعد للرهان معك". لكن الثري الأول أضاف بأنه قادر أيضاً على أن يجعل السكرتير ذو الشخصية الهادئة المحترمة يحل محل هذا المتسول ويصبح هو المتسول، وأيضاً خلال ثلاثة أشهر فقط. لكن الثري الثاني أصر بأن هذا الشيء مستحيل. فاتفقا على مضاعفة الرهان على أن يسمح الثري الثاني للثري الأول باستخدام ما يريد لإنجاح رهانه من دون أن يتدخل لمساعدة السكرتير.

فعلاً، في اليوم الثاني شكل الثري الأول لجنة من عدد من الأخصائيين في مختلف المجالات لجلب ذلك المتسول وتنظيفه وإسْكانه في فندق راقٍ وتوفير أفضل البدلات والخدمة ورعاية طبية ونفسية واجتماعية، مع تدريب يومي وعلى مدار الساعة في كيفية تناول الطعام وكيفية الجلوس للحوارات وكيفية إدارة الأعمال وحتى كيفية التعامل والعلاقات مع النساء ومع الضيوف. واستمر العمل معه تحت إشراف فريق ضخم من المتخصصين لمدة ثلاثة أشهر.

وبنفس الوقت، تم تشكيل فريق ثانٍ من المتخصصين لتحطيم وتدمير شخصية السكرتير وتوريطه في مشاكل مادية واجتماعية وأخلاقية، بحيث أصبح مطلوباً للقضاء بعشرات التهم حتى فقد عمله ومنصبه وفقد أمواله وتخلت عنه زوجته إلى أن أصبح يفترش التقاطعات للحصول على الطعام. نعم، في ثلاثة أشهر تحول المتسول إلى شخصية راقية مسؤولة، وتحول السكرتير الراقي إلى متسول.

العبرة أن المال يصنع المُحال، لكن ليس المال وحده، بل من يتحكم بالمال هو الذي يصنع من أراذل المجتمع قادة وسياسيين. فلا غرابة أن يصبح النكرة شخصية تتحدث بالدبلوماسية وبالأفكار طالما هناك فريق كبير من المتخصصين وراءه يعملون ليل نهار مقابل المال ليعيدوا بناء كيان هذا الإنسان ليصبح متحدثاً أنيقاً يتكلم عن أمور تخص مستقبل البلد. السر كله في المال. هذا المال جعل من بعض الأراذل ملوكاً، وجعل من بعض المسحوقين سادة على الناس. لكن السر الذي يخفى على هؤلاء والذي يعرفه كل ذي لُب، بأن المال الذي يأتي عن طريق الحرام يحمل معه المصائب والأحزان ولو بعد حين.