رغم التعتيم الإعلامي المشدد المفروض على تغطية وسائل الإعلام التي تعمل داخل سوريا، وفرض الرقابة المشددة ومصادرة الحريات العامة والدينية والشخصية للأفراد والجماعات، فضلاً عن تواطؤ الأتراك والأميركان والأنظمة العربية والغربية مع عصابات الجولاني، فإنَّ حكومة الجولاني الإرهابية لم تفلح في حجب المذابح والمجازر والاعتقالات والإعدامات الجماعية، ومظاهر جرائم التهجير والتعذيب والتطهير العرقي والمذهبي التي ترتكبها عصابات الإرهاب التكفيرية ومافيات الجولاني الإجرامية ضد سكان المدن والقرى السورية من المسيحيين والدروز والأكراد والشيعة والعلويين وغيرهم، بحجج وذرائع واهية.
فقد انتشرت الصور والفيديوهات والتسجيلات الصوتية والمرئية التي توثق تلك الجرائم والانتهاكات والخروقات بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام منذ سقوط نظام الأسد وإلى هذه اللحظة. وأظهرت تلك الفيديوهات عصابات أبو محمد الجولاني والفصائل الإرهابية المسلحة وهي تجلد الناس العزّل بالسياط، وتجبرهم على الزحف وتقليد أصوات الحيوانات كالكلاب، وترديد شعارات طائفية ومناوئة للنظام البعثي وبشار الأسد كالببغاوات، ومداهمة منازل المواطنين في جوف الليل، وسرقة المنازل ومصادرة الممتلكات العائدة للشيعة والعلويين وغيرهم من المحسوبين على النظام السوري السابق، وإن كانوا مجرد موظفين.
تم توثيق قصف منازل الشيعة بالدبابات والطائرات المسيّرة في قرية الشنية وغيرها في ريف حمص الغربي، وكذلك منازل العلويين في الساحل، ورمي الشيعة والعلويين في سيارات التحميل وتكديسهم فوق بعضهم بعضاً، وضربهم بالأسلحة والأدوات الحديدية وركلهم بالأقدام، وسحق رؤوس المعتقلين بأقدام الإرهابيين. كما تضمنت الفيديوهات مناداة الشيعة والعلويين الموقوفين في غرف التعذيب بالخنازير والقردة، ونعتهم بأقذر الكلمات والأوصاف، وسحلهم في الشوارع حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة، مع التمثيل بجثثهم.
شملت الجرائم اعتقال الأساتذة والموظفين ورجال الدين والتجار من الشيعة والعلويين وغيرهم، وإجبار العلويين على اعتناق المذهب السلفي وترك مذهبهم وترديد الشهادتين وكأنهم من مشركي قريش. وتم تفجير المقامات والمزارات الدينية التابعة للطائفة العلوية والشيعية، وحرق القبور، والعبث بالجوامع والحسينيات وتدميرها.
كما وقعت اعتقالات جماعية بحق الشيعة في حمص والعلويين في مناطق الساحل، حيث تعرضوا لمختلف الإهانات والانتهاكات، وضُرب الرجال أمام أطفالهم ونسائهم، وعُذّب الشباب بسبب انتمائهم الديني والمذهبي. أُحرقت قرية الخزنة الشيعية، وسُرقت بيوت الشيعة في ريف حمص، وهُجّر أكثر من 60 ألف مواطن شيعي من قرى حمص وغيرها إلى لبنان.
اعتُقل سكان نبل والزهراء الشيعية، بمن فيهم الأطفال والنساء والعجزة والمرضى، ونُقلوا إلى أماكن مجهولة، ولا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اللحظة. حوصرت مناطق العلويين والشيعة بالدبابات والأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وأُرهب السكان وخُوِّف المواطنون العزل.
تعرض المعتقلون لتعذيب بالكهرباء من خلال صعقهم وهم مقيدون في مختلف أنحاء الجسد. وقُتل المعتقلون الأبرياء بطرق وحشية، فيما استُخدمت عائلاتهم كرهائن لإجبار الهاربين من بطش الجولاني على تسليم أنفسهم.
كما انتشرت صور للأجانب والغرباء وهم يعذبون ويقتلون السوريين، وأُجبر السوريون العزل على الزحف في الأوحال والشوارع لمسافات طويلة. وأطلق أتباع الجولاني تهديدات عابرة للحدود، توعدوا فيها شيعة إيران والعراق بالقتل في كربلاء.
وأظهرت الفيديوهات هجمات العوائل السنية المتعاطفة مع الحركات الإرهابية على بيوت جيرانهم من الشيعة والعلويين والمسيحيين والدروز، حيث ألحقوا الأضرار بها وبأهلها.
تحولت المناطق ذات الأغلبية العلوية والشيعية إلى بؤر للإرهابيين والمجرمين والمقاتلين الأجانب والغرباء من الشيشان والأوزبك والأفغان والأتراك والإيغور والداغستانيين والصينيين والعرب، وغيرهم.
ومن أخير هذه الفيديوهات الصادمة وليس آخرها اعتقال عدد كبير من الشباب من الطائفة الشيعية في حمص، وتعذيبهم وضربهم ضرباً مبرحاً وإطلاق النار عليهم وشتمهم بأبشع العبارات واعتقال أهلهم ونسائهم وعوائلهم؛ وقد حاصروا القرى الشيعية في حمص منذ ثلاثة أيام، اذ فرضوا حصاراً قاسياً ومشدداً على سكان تلك القرى، فلا ماء ولا غذاء ولا دواء ولا كهرباء، وقاموا بسرقة أبراج الشبكة وقطع الإنترنت عنها، ليكونوا في عزلة تامة عن العالم الخارجي.
وقد سقط قرابة 500 شهيد من الشيعة أثناء هجوم العصابات الإرهابية عليهم في جنح الظلام... وانطلقت تظاهرات في قرية فاحل في ريف حمص السورية للمطالبة بوقف الانتهاكات وجرائم الإبادة التي ترتكبها عصابات الجولاني الإرهابية بحق أبناء الطائفة الشيعية والمطالبة بكشف مصير أكثر من 50 شخصاً اختطفتهم عصابات الجولاني خلال الأيام الماضية.
وبالرغم من الاتفاقيات الدولية والإقليمية السابقة التي مهدت لسقوط نظام الأسد، وضمنت حماية المكون العلوي والشيعي وغيرهما من الأقليات، ودعت إلى ضمان الحقوق والحريات في ظل البديل الجديد، فقد تغاضى السوريون والمجتمع الدولي والإسلامي والعربي عن تأريخ المجرم الجولاني المطلوب للقضاء والعدالة، وغضوا الطرف عن حقيقة الفصائل المسلحة الإجرامية والتنظيمات الإرهابية المتهمة بارتكاب أبشع الجرائم والمجازر، وباركوا لهم استلام السلطة، وقدموا لهم التهاني والتبريكات، وتبادلوا معهم الرسائل الإيجابية. إلا أنَّ الطبع غلب التطبع، إذ عادت "حليمة إلى عادتها القديمة"، فالفصائل الإجرامية عادت إلى ممارسة هواياتها المفضلة في الذبح والنحر والجلد والتعذيب والتمثيل بالجثث والتخريب والتدمير.
وبالرغم من ترحيب بعض المناطق بهم وتسليم الأسلحة لهم، أظهروا للناس العزل الحقد والعداء، وقتلوا أبناء سوريا في وضح النهار، فهم يريدون بناء الدولة على الجماجم والأشلاء والإرهاب، والسيطرة على الحكومة بطريقة العصابات والمافيات والتشكيلات الجهادية، والدعوة إلى غزو الأراضي الواقعة تحت الحكومات الوطنية والشرعية التي تنتمي للطوائف الأخرى.
فالاستراتيجية التكفيرية والتخطيط الطائفي أصبح واضحاً وضوح الشمس في رائعة النهار، إذ يستهدف تقليل النسب السكانية للطائفة الشيعية بكل فرقها، والإبقاء على بعضهم من أجل استعبادهم وتهميشهم وإقصائهم ونهب ثرواتهم وخيراتهم. ولديهم استعداد في سلوك مختلف الطرق الملتوية، ورفع الشعارات الوطنية والإسلامية والإنسانية الكاذبة، والعمل بكافة الوسائل القذرة، وانتهاج جميع السبل الإجرامية المتعددة والسياسات الشيطانية الماكرة للوصول إلى غاياتهم الإرهابية البشعة.
فهم يفضلون التعاون مع الصهاينة وقوى الاستعمار والاستكبار ومد يد العون والمودة لهم، على أن يعيشوا مع إخوانهم الشيعة بأمن وأمان وسلام. لذلك نشاهد خطباءهم اليوم في المساجد يدعون الله إلى تطهير سوريا من العلوية والشيعة، إلا أنهم لا يطلبون منه تحرير الجولان وغيرها من إسرائيل!
نعم، قد تعرض الشيعة في المنطقة وطوال عقود إلى عمليات وسياسات تهميش وإقصاء واضطهاد وقتل وانتهاكات وإبادات وتصفيات واعتقالات وتطهير وتهجير ونكبات وأزمات مقصودة من قبل الأنظمة الدكتاتورية الغاشمة والطائفية الحاقدة. حتى بعد تحرير العراق من مجرمي الفئة الهجينة وجلادي الطغمة الصدامية عام 2003، لم تتوقف تلك الجرائم والمجازر، بل ارتفعت وتيرتها بشكل غير مسبوق، وكانت نسبة ضحايا الإرهاب من الشيعة وحدهم تفوق 80 بالمئة، مما أدى إلى تقليل أعدادهم في المنطقة وهجرة الكثيرين منهم كما يحدث الآن في سوريا وغيرها. ولا تزال حملات التطهير الطائفي مستمرة في سوريا وأفغانستان وغيرهما على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
ومع الأسف الشديد، التزم الجميع الصمت إزاء تلك الجرائم المروعة والإبادات والتصفيات الممنهجة ضد الشيعة والعلوية، بما فيهم قيادات الشيعة. نعم، قد صدر استنكار من رئيس الوزراء السابق نوري المالكي حول الجرائم الأخيرة في حمص، إذ استنكر الجريمة البشعة ضد الشيعة العزل في سوريا، وقال: "تابعنا بألم شديد مشاهد الجرائم الحية بحق شباب شيعة عزل في سوريا، وسط سكوت الإدارة الجديدة، ونحمل الإدارة الجديدة مسؤولية حماية أرواح السوريين".
إلى متى يغض المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان الطرف عن هذه الغدة السرطانية الإرهابية التي كانت ولا تزال تعتاش على مص دماء الشيعة واستنزاف ثرواتهم وخيراتهم؟ فلا شغل لديها سوى القضاء المبرم على كافة أبناء الشيعة بغض النظر عن فرقهم وأعراقهم وألوانهم وتوجهاتهم السياسية والفكرية والثقافية. ولابد للمجتمع الدولي من إيجاد حل جذري لهذه المشكلة العويصة والجريمة الإنسانية الرهيبة والمستمرة بحق الشيعة.
ومن أجل الخروج بأقل الخسائر من هذه المجازر التكفيرية والمعمعة الطائفية التي لا تنتهي، لا بد للشيعة عامة والشيعة العرب على وجه التحديد من تشكيل فرق دفاع قانونية ومنظمات رصد إنسانية توثق كافة الجرائم والانتهاكات والخروقات والمجازر، وترفعها إلى المحاكم الدولية، وتنشرها في وسائل الإعلام العامة، وتسلط عليها الأضواء. وكذلك، لا بدَّ للشيعة من تنظيف الجبهة الداخلية من خلال استبعاد وطرد كل الأصوات الطائفية ودعوات بعض رجال الدين الشيعة المشبوهة أو من المحسوبين على الطائفة والله يعلم أنهم من ألد الخصام؛ والتي تستهدف تفريق المسلمين وزيادة حنق وحقد السنة على الشيعة، وإظهار الشيعة بمظهر سلبي أمام الرأي العام أو التي تعمل على تدجينهم وإضعافهم واستحمارهم واستغلالهم.
وكذلك، أصبح من الضروري بمكان مد الشيعة لجسور التفاهم مع كافة الحكام المحليين والأنظمة الحاكمة، وعقد اتفاقيات شرف فيما بينهم، بما يضمن سلامة المكون الشيعي وحفظ حقوقه، فضلاً عن التنسيق مع القوى الدولية الكبرى والاحتماء بمظلتها والتعاون معها، وكل ما عدا ذلك مجرد شعارات وخزعبلات وعنتريات لا تسمن ولا تغني من جوع، بل إنها جرت الويلات على الطائفة في أغلب بقاع العالم؛ ولنا في فرقة البهرة أسوة حسنة.
وأما في ما يخص العراق، فالظاهر من تصريحات حكومة الجولاني المعادية وتحركاتها المشبوهة وثقافة عناصرها الطائفية وقواعدها الشعبية الحاقدة أنها لا تنوي السلام مع العراق، وتتحين الفرص للانقضاض على الأمة والأغلبية العراقية، وعليه، لا بدَّ من دفع خطر حكومة الجولاني بمختلف الطرق والوسائل؛ فالأمن العراقي أهم من الأمور الأخرى.
التعليقات