"لو فكرت الشعوب وهي تثور بما ستخسر لما كان هناك شعب واحد حر"
لن تجدي هذه العجالة الآن في تقديم رد حقيقي على السؤال الوارد في العنوان، فهو يحتاج إلى بحث حقيقي ومعمق ينبغي أن أقوم به في الوقت المناسب والظروف المناسبة، وهو ما سيحتاج إلى قدرات وإمكانيات أكبر من قدرات وإمكانيات شخص لوحده.
غريب هو السؤال وغريبة هي الإجابات، فإن تسأل عن حدث بمثل مستوى السابع من تشرين الأول (أكتوبر) من النقيض إلى النقيض فهذا يعني أن لدينا خلطاً عجيباً في المفاهيم والرؤى قد تصل حد تجريم الذات بديلاً للعدو.
معركة اللغة
الجميع تقريباً اعتبر السابع من تشرين الأول (أكتوبر) هجوماً إما على دولة الاحتلال أو على "إسرائيل"، لكن أحداً، ما عدا أصحاب المعركة، حركة حماس، التي اعتبرتها معركة المسرى والأسرى، لم يسمّها معركة للحرية أو للدفاع عن الوطن أو الذات أو عودة لأرض الآباء والأجداد. بل إن أحداً لم يكترث ليقرأ أن الذين دخلوا إلى تلك المواقع يعرفون بالرواية المتناقلة أو بالحدس أن بيوت آبائهم وأجدادهم كانت هنا، وهي حق لهم لا يمكن أن يموت، ونحن أبداً سنبقى أسرى لمصطلح غائب لا نسعى أبداً لصناعته أو صياغته أو حتى قراءته والتمحيص فيه فيما إذا كان مناسباً أم لا.
قبل أيام، كان الاحتلال يحتفل باليوم العالمي للغة العبرية، وأحد تقاليدهم أن يتم التصويت على كلمة العام. وقد فازت هذا العام كلمة "مخطوف" لأنهم تمكنوا من جعلها الكلمة المعتمدة عالمياً للتعبير عن أسى السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عند المقاومة. والسؤال هنا: هل نفكر نحن بمصطلحاتنا؟ ولو كنا نفعل، لما أطلقنا لقب "مستوطن" على من يغتصبون بلادنا، مع أننا نعلم أن "الاحتلال" يستخدم نفس المصطلح، وهم يعرفون لماذا يستخدمونه، ونحن لا ندري خطورة استخدامه علينا. ولم أسمع يوماً أن المفكرين أو اللغويين أو حتى الساسة الفلسطينيين والعرب دعوا إلى ورشة لصناعة قاموس للمصطلحات، أو أنهم عقدوا يوماً في حالة ما كحالة السابع من تشرين الأول (أكتوبر) ورشة لصناعة مصطلح أو اختيار كلمة تحمل أهداف المعركة ودلالاتها ولا تتناقض معها.
بدأت باللغة لأن البعض يعتبرها تافهة، لأصل إلى جوهر القضية: من يستخف بأدق الأشياء سيستخف بأعظمها. فغلاف البضاعة يدل على مضمونها، وإلا فإنه سيفشل مع الوقت. ولنرَ ما كان عليه الحال قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وإلى أين كانت الأمور تتجه وبقوة وتسارع عجيبين.
في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 24 آب (أغسطس) 2021، وصفاً للموقف من مسألة الدولة الفلسطينية، يرد أنَّ "هذه الحكومة لن تشكل دولة فلسطينية، ويمكن معالجة معظم المشاكل من خلال الاقتصاد، الاقتصاد، الاقتصاد".
أما بنيامين نتنياهو، فقد قال في تصريح لشبكة "سي إن إن" مطلع العام 2023، بعد توليه منصبه بقليل: "عندما ينتهي الصراع العربي - الإسرائيلي بشكل فعال، سنعود إلى الفلسطينيين ونحصل على سلام عملي معهم". وللمراقب أن يتخيل أي سلام وأية عملية ستكون للفلسطينيين ومعهم حين تنتهي دولة الاحتلال من إقامة سلام مع كل العرب.
إلى جانب ذلك، فإنَّ حكومة العصابة الفاشية الاخيرة بزعامة نتنياهو والتي ضمت حزبي سموتريتش وبن غفير، وضعت ضمن اتفاقية الائتلاف نصاً واضحاً يقول: "لليهود من دون غيرهم الحق غير القابل للتصرف في كل أراضي فلسطين من البحر إلى النهر، وفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية". وقد بدأ ذلك أصلاً أثناء حكم دونالد ترامب بالإعلان عن القدس عاصمة لدولة الاحتلال، فيما نصت "صفقة القرن" أيضاً على ضم 30 بالمئة من أراضي الضفة الغربية إلى دولة الاحتلال، وقد جاء في خطة سموتريتش المنشورة عام 2017 "أنَّ المستعد لوجودنا هنا فليُسلِم ومن يريد المغادرة فليُغادر ومن يختر القتال فعليه انتظار الحرب". وقد بدأ سموتريتش خطواته الفعلية لتنفيذ خطته وفي المقدمة التخلص من السلطة الفلسطينية عبر الخطوات التي بدأها ومنها:
- زيادة الاقتطاعات من أموال المقاصة بما في ذلك حقوق الأفراد التي تصدرها محاكم الاحتلال، وحتى أولئك الذين تحكم لهم المحاكم بتعويضات عن الأضرار التي لحقت بهم جراء العمليات الفدائية الفلسطينية وهي عادة ما تكون أرقاماً فلكية.
- محاولة وقف النشاط المصرفي الفلسطيني مما يعني انهيار البنية الاقتصادية الفلسطينية المتهاوية أصلاً.
- زيادة كم الاستيطان وتوسيع رقعته وزيادة الانفاق عليه.
- وضع اليد رسمياً على مناطق "ب" بعد أن ثبت وضع يده على مناطق "ج" عبر صفقة ترامب.
زيارة بايدن الى بيت لحم وتوقيعه إعلان القدس وحديثه عن ضرورة اهتمام السلطة ببناء ذاتها وحكاية الشفافية وما إلى ذلك، وذكر الدولتين بشكل عابر، مع التأكيد أنها مسألة بعيدة الآن، ومن المبكر الحديث حولها، وبذا لم يكن يعني شيئاً التزامه الشخصي بها، فالرؤساء عابرون وما يبقى قرارتهم وخطواتهم الرسمية على الأرض. فكل رؤساء أميركا أعلنوا موقفاً مماثلاً، لكن الحقيقة على الأرض جاءت فقط من ترامب عكس ما نريد بالمطلق.
من جهة أخرى، تعمقت حكاية التطبيع بين العرب ودولة الاحتلال، وبات القرب من توقيع اتفاقية مع السعودية تحديداً التطبيق الرسمي لما قاله ترامب وما أراده فعلاً على الأرض، وبالتالي أصبحت حكاية الدولة في مهب الريح، ولم يعد أحد يكترث بما يجري في الضفة الغربية، وصار قطاع غزة خارج الاهتمام بشكل مطلق، بل إن لا أحد بات يكترث نهائياً لأمره ولا لأمر أهله ومعاناتهم والإحكام المطلق للحصار عليهم وتحول حياتهم إلى جحيم.
الغرابة المطلقة تأتي من المواقف الفلسطينية سياسيًا على الأرض، ففي حين بدأ الصراع ينتقل من صراع مع الاحتلال إلى صراع داخلي، وأخذ الصراع شكل الاتهامات المتبادلة، بات الجميع يزايد على حركة المقاومة الإسلامية حماس ويتهمها بأنها تنازلت عن المقاومة واستبدلتها بالدولارات. يتهمون قطر وتركيا بالتواطؤ وتقديم المساعدات لحماس، إذ إن أموال قطر اشترت حماس التي أذعنت وقبلت بالتنازل عن المقاومة. بينما ظهر اتهام آخر مناقض، باتهام الجهاد الإسلامي بالتبعية لإيران، وأن أموال إيران تريد تخريب الضفة الغربية. وراح البعض يسعى لإشعال صراع بين حماس والجهاد الإسلامي دون أن يتمكن أحد مما يريده هؤلاء الذين يتهمون الجميع بلا استثناء. فلا هم يريدون حماس أن تستسلم كما اتهموها، ولا يريدون الجهاد أن تقاوم واعتبروها صاحبة أجندة خارجية، ولا يريدون للطرفين أن يتفقا، ولا يريدون لقطر أن تدعم غزة، ولا لتركيا أن تستقبل قادة حماس. وضاعت الطاسة فعلاً، وكان كل ذلك تهديدًا حقيقيًا للقضية الفلسطينية، التي كان الأعداء منشغلين بها حين كنا نحن منشغلين ببعضنا البعض. وكان ذلك يعني، فيما لو تواصل، أن يستمر إهمال القضية الفلسطينية وخروجها من كل المسارات، وتحويلنا إلى مجموعة من الناس يمكن التعاطف معهم إنسانيًا والبحث عن حل إنساني لهم، لا أكثر ولا أقل، وفي أحسن الأحوال تنفيذ مخطط المعازل والجيتوهات في الضفة الغربية، وانتظار هروب أهل غزة من أرضهم بسبب الحال المزري الذي كانوا يعيشونه.
إقرأ أيضاً: هل لا يزال الانتصار ممكنًا؟
كان من غير المنطق تصنيف العيش في قطاع غزة على أنه حياة آدمية يمكن القبول بها، حين أصبحت أجرة العامل اليومية، إن وجد عملًا، لا تزيد على عشرين شيكل، وهي لا تكفي لإطعام عائلة غزية خبزًا فقط.
ثم جاء السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وفجأة صار من اتهم حماس بالتسليم يهاجمها لأنها لم تسلم. وبدل اتهام دولة الاحتلال بكل الجريمة، صارت حماس هي السبب. فماذا لو لم يكن السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الذي أوقف مخططات سموتريتش، وفي مقدمتها مخططاته ضد السلطة الفلسطينية نفسها؟
ماذا لو لم تكن حماس تعد العدة ليوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) بتنسيق تام مع كل جهات المقاومة؟ فهل كنا سنصل ذات يوم إلى خنوع مطلق ونصبح جنودًا في جيش الاحتلال، نتقدم لاحتلال أرض لبنان وسوريا والأردن، وقد يكون أبعد من ذلك؟ ولدينا في جيش إفريقيا الفرنسي قدوة، وجيوش التاج البريطاني، التي كان قوامها من شعوب المستعمرات وقادتها فقط من الإنجليز، خير مثال. ألم تتعلم شعوب الأرض أن ما تدفعه من ثمن ليرضى عدوك بخنوعك أغلى بكثير مما تدفعه على مذبح حريتك؟
كان الأمر سيكون ببساطة توقيع اتفاقيات السلام مع العرب وترك الشعب الفلسطيني يلهث بحثًا عن فتات هنا وفتات هناك يتعلق بحياته المعيشية، لا أكثر ولا أقل، ويصبح الحديث عن الحقوق الوطنية المشروعة أمرًا من ضروب الخيال أو الاستحالة. فهل كان أولى بحماس أن تخنع ونموت جميعًا خانعين أذلاء أو لاجئين نطرق الأبواب لنأكل أو نستجدي الاحتلال بعضًا من إصلاحات آدمية للحال غير الآدمي؟
يكفي أن أكتب هنا إحصائيات لما قدمته العديد من الشعوب قرابين لحريتها. ولست أوجه قولي للغزيين الذين هتفوا للمقاومة وهم يحملون أشلاء أطفالهم، بل لمن كانوا يستدفئون بالكهرباء القادمة من دولة الاحتلال ويتباكون على أشلاء أطفال مقاتلي حماس والجهاد وغيرهم من أهل غزة.
• حرب تحرير بنغلادش 1971: فقد الشعب البنغالي 2,500,000 بنغالي.
• الثورة المكسيكية: حوالى 1,500,000 إنسان.
• حروب روسيا الأهلية ومع أعداء الخارج: حوالى 7,000,000 إنسان.
• الجزائر: 1,500,000 إنسان، وكان تعداد الشعب الجزائري 10 ملايين فقط.
• فيتنام: أكثر من 2,000,000 إنسان.
فماذا إذن كان علينا أن نختار؟ أن نموت جميعًا أذلاء ونخسر أنفسنا وبلادنا، ومن سيبقى منا سيعيش ذليلًا خانعًا، أم نصطف إلى جانب الشعوب الحية مهما كلف الأمر من ثمن؟ لا أعتقد أن هناك شعبًا حيًا على وجه الأرض يمكنه أن يقبل المفاضلة بين عيش الخنوع أو الثورة.
إقرأ أيضاً: أيها الصامتون انتظروا دوركم
لقد ضحى الفرنسيون إبان الثورة الفرنسية في الأعوام 1789 – 1799 بحوالى 250,000 إنسان. وحين احتل النازيون فرنسا لم يتردد الشعب الفرنسي في مقاومتهم وقدم 90,000 إنسان على مذبح حريتهم، ولم يتهموا المقاومة بأي اتهام، بل ظلت رمزًا لعزتهم. في حين يريد لنا اليوم حكام فرنسا أن لا نشبههم ونبقى خانعين.
أعتقد أنَّ الإجابة على السؤال في العنوان لن تعتمد أبدًا على موازين الربح والخسارة أبدًا. فمثل هذا الأمر مجدٍ للمعتدين، أما من يدافعون عن حقهم بالحياة فلا خيارات أمامهم. فإما أن يحنوا ظهورهم ليركب الأعداء، أو يقاتلوا بشرف أيا كانت نتيجة هذا القتال. ولو فكرت الشعوب وهي تثور بما ستخسر، لما كان هناك شعب واحد حر على وجه الأرض.
التعليقات