بعيدًا عن غزة ولبنان الجنوبيين (جنوب لبنان والضاحية الجنوبية) ومن معهما فعلًا قبل القول، فإنَّ الجميع مدانون وفي أحسن الأحوال متهمون. ليس يكفي على الإطلاق الوقوف على منصات الإدانة والنداء دون أن تتحرك يد واحدة لرفع الظلم الواقع على الشعبين الفلسطيني واللبناني، ودون أن تجرؤ جهة واحدة على تسمية الأشياء بأسمائها.

العالم، وفي مقدمته العرب والمسلمون، يصرّ على التعاطي مع الولايات المتحدة على أنها وسيط، ويغض النظر عن كل ما تقوم به أميركا من دعم وإسناد ومشاركة ومنح التغطية والتبرير لكل ما يقوم به قاتلها المأجور على أرض فلسطين ولبنان.

صحيح أنَّ مقتلة البشر ومطحنة الحجر والشجر قاسية وبشعة بما لا يمكن احتماله، حتى إن البعض يعتقدون أن النصر بات مستحيلًا بسبب فارق القوة بين أطراف الحرب: بين أكبر قوة عسكرية في المنطقة مقابل قوى جميعها تعيش ظروفًا قاسية. اليمن وسوريا والعراق لم تتوقف الحرب عليها وفي بلادها منذ سنوات، ويجري الاعتداء عليها بأشكال مختلفة. العالم يعرف جيدًا الحال الذي آل إليه لبنان، ولا يخفى حال غزة التي تتعرض لأبشع صنوف القهر منذ عقود، وأسوأها في العقدين الأخيرين. ومع ذلك، لا تزال هذه القوى تصمد. أما إيران، فهي تتعرض لأبشع صنوف الحصار والعقوبات والضغط الإمبريالي ليس بسبب النووي، بل بسبب موقفها من القضية الفلسطينية والمشاريع الأميركية والصهيونية في المنطقة.

ليس غريبًا أبدًا أن تصمد قوى هذا حالها، بل إن صمودها هو النتيجة الطبيعية للحال الذي تعيشه. وهناك من يتباكى على الحال دون أن يدرك أن الحال الذي تعيشه هذه البلدان أثناء الحرب ليس أسوأ أبدًا مما كانت تعيشه قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. ومن لا يعرف معنى وقيمة الحرية والكرامة هو فقط من يمكنه القول إنَّ سلامة الجسد أهم من حرية الروح.

إقرأ أيضاً: أفواه الغزيين تخرج عن الخدمة

الشعب الفيتنامي قدم مليون مقاتل ومليون مدني على مذبح الحرية، ولولا ذلك، لكانت أجساد الذين قتلوا في معركة الحرية لا تزال تمارس حياة الأموات لا أكثر ولا أقلّ. كذلك الأمر بالنسبة إلى الجزائر. وفي جنوب إفريقيا، لم يكن العالم ليلتفت إلى قضية شعبها لولا مذبحة شاريفيل عام 1960. ومع ذلك، ظل شعب جنوب إفريقيا يقاتل حتى نال حريته. ولو أنه لم يفعل ذلك، لظلت الأجساد حية ومحشورة في جيتوهات، تُعاقب بالحياة بسبب لونها، فالعيش في الذل هو عقاب بالحياة ولا يمت لحياة الكرامة بصلة.

الفرنسيون قدموا على مذبح الحرية لبلادهم وشعبهم حوالى 100 ألف رجل وامرأة وربع مليون جريح، وكسبوا حريتهم. ولو أنهم استخدموا الحسابات الآلية الجافة في الربح والخسارة المادية، لكانت فرنسا الآن "غيتو" لشعبها ومتنزهًا لأعدائها. ولأنَّ الحسابات لا تأتي على هذا النحو، فإنَّ عدد الذين قُتلوا من الهنود وهم يدافعون عن التاج البريطاني بلغ 87 ألف جندي هندي، وجرح 35 ألفًا، وأُسر 67 ألفًا، وخسر ثلاثة ملايين شخص حياتهم بسبب الجوع أثناء الاستعمار البريطاني للهند.

إقرأ أيضاً: سُباتنا هذا إلى متى؟

إنَّ حرب المقتلة المطحنة هي حرب بين متناقضين: فمن جهة، تقاتل أميركا وعصاباتها وقاتلها المأجور في سبيل التمكن من السطو على المنطقة وخيراتها والتخلص من ناسها. وهذا ما يخضع لحسابات الربح والخسارة، فطالما الهدف هو السطو والسرقة، فإنَّ الهدف يُقاس بالقيمة المالية، وبالتالي الخسائر كذلك. وإذا أصبح الثمن أكبر من الهدف، يتنازل الساعون إلى الهدف عنه. بينما تقاتل الشعوب في سبيل حريتها، وهو هدف لا قيمة مادية ولا مالية له. ولذا، فهو لا يمكن أن يخضع لنظام الربح والخسارة. ومن هنا يأتي التأكيد دائمًا أن المقاتلين في سبيل الحرية ينتصرون دائمًا وأبدًا مهما طال الزمن ومهما كانت التضحيات.

أمَّا المتفرجون، فإنهم يمنحون القتلة قدرتهم على الإحساس بأن بإمكانهم أن يفعلوا ما يشاءون، بما في ذلك بالصامتين المتفرجين أنفسهم.

أيها الصامتون عن المقتلة المطحنة في فلسطين ولبنان، ليس عليكم إلا أن تنتظروا دوركم إن واصلتم دور المتفرج لا أكثر ولا أقل.