يهمنا ما حل بثقافة شعوب الشرق الأوسط، بقدر ما تهمنا آراء شريحة واسعة من شعبنا الكوردي، علماً بأن لتلك الشعوب حركات ثقافية على أبواب المرحلة التنويرية، ومن واجباتها تشذيبها وإنقاذها من الأنظمة الشمولية التي سلبت إرادتها، ودمرت ثقافاتها، وقتلت فيها القدرة على رؤية المستقبل، وخلقت أوبئة في مفاهيمها، مثلما أثرت على مفاهيم ومواقف نسبة غير قليلة من المجتمع الكوردي وعلى جزء من حراكه، ومثله أثرت بشريحة واسعة من الشعب الفلسطيني الخاضع لسلطة حماس والجهاد الإسلامي أو المتأثر بهما، وقد ضحتا بشعب كامل وحاربتا النظام الديمقراطي، ودعمتا الفكر الشمولي.

البعض من الكورد يحارب الدول الحضارية تحت منطق حماية الوطن من القوى الخارجية، والوطن يعني لهم الدول اللقيطة التي تشكلت في بدايات القرن الماضي، أي تركيا وسوريا والعراق وإيران، والقوى الخارجية محصورة في دول التحالف، وعلى رأسها أميركا، وأغلب الفلسطينيين يحاربون هذه القوى تحت منطق تحرير فلسطين والقضاء على إسرائيل. وفي الحالتين يتناسون أنهم، حتى في حال نجاحهم في هذا المسعى، سيستمرون بالعيش تحت نير الطغيان والإدارات الغارقة في الفساد، وسيظلون يعانون الويلات.

لا يعني ذلك أن الدول الديمقراطية الحضارية، الأوروبية وأميركا وغيرها، كاملة وخالية من السلبيات، ومثالية كجمهورية أفلاطون، بل إنها أفضل ما بلغه الإنسان حتى الآن، ويجد لذاته فيها قيمة واعتبار، ويجب التنافس مع أنظمتها لتقديم الأفضل لا أن يتم محاربتها، بل من الأفضل محاربة الأنظمة الشمولية والدكتاتورية المحلية والتي تسخر شعوبها لمحاربة الدول الديمقراطية، حفاظاً على ذاتها.

لا تتنبَّه هذه الشعوب، ومن بينها الشريحة المعنية من الشعب الكوردي، أنَّ غياب أميركا عن المنطقة يعني هيمنة نظام أئمة ولاية الفقيه وبشار الأسد، وإسلام رجب طيب أردوغان، واجتياح نظام بوتين المطلق، وهيمنة المنظمات التكفيرية مثل حماس، وحزب الله، والحشد الشيعي، وهيئة تحرير الشام، والحوثيين، أو الأحزاب القومية الفاشية كالبعث وأشباهه.

يتناسون مقارنة لبنان قبل وبعد سيطرة نظام الأسد والبعث، ولبنان قبل وبعد هيمنة حزب الله، وسوريا قبل وبعد البعث، وما بين الديمقراطية في إسرائيل ونظام حماس، وحرية الفلسطينيين في إسرائيل أو تحت السلطة الفلسطينية أو حماس، ويتناسون أن شعوب المنطقة تعاني الويلات، مع ذلك تطالب ديمومة الطغيان والدكتاتورية، وهي دلالة على وجود وباء في ثقافة شعوبنا ومفاهيمها، تحثها على تفضيل الذل على الحرية، ودكتاتورية الأسد وصدام حسين وأئمة ولاية الفقيه وبوتين على القوى الديمقراطية.

يتناسون، تحت تأثير المخدر الفكري، أن زوال إسرائيل كما تطالب إيران وأدواتها كالحوثيين، وحماس والجهاد الإسلامي، والحشد الشيعي، يعني القضاء على أفضل الأنظمة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وإن كان البعض يبررها بسيطرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، دون إدراك أن هذا الأخير طفرة عابرة في النظام الديمقراطي الإسرائيلي، ظهر كرد فعل على التطرف الإسلامي المتصاعد في المنطقة، ولا يعني أنَّ إسرائيل مثالية وتتصف بالكمال، لكنها الأفضل في الشرق الأوسط، ولها سلبياتها وهي ذات وجهين عند التعامل مع القضية الفلسطينية، وتلك أيضاً لها مبرراتها أحياناً، ونتنياهو سيزول لكن الديمقراطية لن تزول معه، وقد تأتي مرحلة تنفتح الأبواب بين الحراك الفلسطيني الوطني الديمقراطي وإسرائيل، ولبلوغ هذه المرحلة يتوجب على الحراك الفلسطيني العمل على تنمية الديمقراطية في ذاتها وتطوير تلك القائمة في إسرائيل.

الشريحة الكوردية المتأثرة بمفاهيم الأنظمة الشمولية، والتي أدت إلى هيمنة نفس المنهجية في أحزابها، وعلى خلفية فكرية ما، حيث تقوم أحياناً بمحاربة أميركا والدول الأوروبية التي ترجح مصالحها، وهي من ضمن استراتيجية المصالح الدولية والعلاقات السياسية، عليها أن تدرك أنها لن تحصل على مبتغاها ولن يكون هناك كوردستان حرة دون سيطرة الديمقراطية على أنظمة المنطقة. فالجدلية متداخلة ما بين الديمقراطية واستقلال كوردستان وتحريرها من سيطرة الأنظمة المحتلة، ومحاربة القوى الديمقراطية، وعدم تحلي أحزاب كوردستان بها، يعني الدعم المباشر للأنظمة الدكتاتورية العنصرية في المنطقة.

شعوب المنطقة، ومن ضمنها الشعب الكوردي، تحتاج إلى حركات تنويرية، توضح ما هو الأفضل لها، وليس الأفضل للأنظمة الفاسدة، وتبين أن مستويات المعيشة لن تتحسن ما دامت منشغلة بمحاربة الديمقراطية والقوى الداعمة لها، وتكشف عن الخدع التي أغرقت أنظمتنا شعوبها فيه تحت أغطية الوطن والحرية والاستعمار والإمبريالية العالمية، ومساوئ النظام الاقتصادي الحر، ومنطق التنافس بين الشركات الرأسمالية، وتفضيل الاحتكار عليها، والذي يسهِّل للشريحة المهيمنة على مقدرات الأمَّة نهب اقتصاد الوطن، كما كان يفعل الرئيس السوري السابق حافظ الأسد برفعه شعار "النفط في أيدي أمينة فلا تسأل عنه"، وأن "اقتصاد الوطن في خدمة جبهة الصمود والتصدي"، ولم تدرك شعوب المنطقة التصدي لمن، علماً أن أمثال هؤلاء كانوا أكثر القوى التي كان يجب أن تحاربها وتتصدى لها شعوب تلك الدول.

نسيت الشعوب أن الحرية في قفص منذ عقود طويلة، إلى درجة لم تعد تميز بين طعم الحرية والطغيان، حتى أن البعض المهاجر إلى الدول الأوروبية يشمئز من الحرية هناك، وينعتها بالمفرطة، في الوقت الذي يطالب فيه شعوب أوروبا بالأكثر، بل وينعت سلطاتها بأنها تقيد الحرية، أي أننا أمام ثقافتين، ثقافة لا تعرف طعم الحرية وعندما تتذوقها تجدها مرة، وأخرى ترى حلاوتها قليلة وتريد المزيد، وهو ما يحصل للفلسطينيين من مواطني إسرائيل مقارنة بالذين تحت لواء منظمة حماس والجهاد الإسلامي، وللكورد الذين يخرجون في المسيرات دفاعاً عن حماس ضد إسرائيل، ويؤيدون أردوغان وإسلامه في الانتخابات، ويدعمون أئمة ولاية الفقيه تحت سمة المرجعية الشيعية. كم كنا نتمنى أن تنافس دولة فلسطين وقطاع غزة بديمقراطيتها ديمقراطية إسرائيل، وتكون الدول المحتلة لكوردستان على سوية ديمقراطية مع إسرائيل.

تحرير أيّ شعب أو دولة من دون هيمنة الديمقراطية وتمتع جميع أبنائه بالحرية الكاملة، ووجود دستور حضاري يجري بموجبه تداول سلطات عصرية متطورة، لن تكون حياته أفضل من حياته قابعاً في السجون تحت نير الأنظمة الدكتاتورية. فغياب الحرية هو ذاته في الحالتين. إنَّ الإنسان يبحث عن لقمة العيش لأطفاله قبل الوطن، ولن يكون هناك وطن من دون الخبز والحرية، وخير مثال، ما يتمتع به المهاجرون من الوطن إلى الدول الحضارية، وتفضيلهم العيش في الغربة على العيش في الوطن المعاني، والمعاناة ليست من الأنظمة بل من مخلفاتها، وحيث الدمار الاقتصادي وتقييد الحريات وتدمير الثقافة، والفساد والبيروقراطية وغيرها من الأمراض السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتفشية في منطقتنا. لا شكَّ في أن جميعنا نطمح إلى جغرافية اسمها الوطن، حتى ولو كان الفقر والجوع والطغيان ينخر فيها، على العيش في جغرافية تسودها الحرية، وهي دلالة خلل في ثقافتنا يغطي عليها الحنين الكامن في اللاشعور، مع تغييب الشعور، وهو ما قاله البعض إنه لو أمطرت السماء الحرية لرفع البعض المظلات.