أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة؛ لا تعطني سمکة لکن علمني کيف أصطاد السمك؛ حکمتان صينتيان رائعتان من حيث عمق المعاني المکتنفة في أغوارهما، لا سيما لو قمنا بتجسيد تلك المعاني على أرض الواقع والتمعن في ما تحمله من دروس وعبر غنية ومفيدة الإنسانية في حاجة ماسة لها على مر العصور.
الحکمتان الصينيتان أعلاه، وجدتهما کضرورتين ملحتين لا بد منهما وأنا أتناول موضوعاً حيوياً وبالغ الحساسية والأهمية کموضوع النموذج السعودي في مواجهة التطرف الديني والارهاب، إذ شئنا أم أبينا، يمتلك هذا النموذج خصوصية متميزة ليس بالإمکان أبداً إيجاد آخر يضاهيه أو يشبهه من حيث الطرق والأساليب التي لجأت إليها المملكة واستخدمتها في التصدي لهذا التحدي ومواجهة تهديد لم تتعرض له السعودية وحدها، بل العالمان العربي والاسلامي والعالم کله أيضاً. غير أن الملاحظة التي يجب أخذها في الاعتبار والأهمية هي أن النمودج السعودي في مواجهة التطرف الديني والإرهاب يمکن اتخاذه أسلوباً وطريقة يحتذى بهما، ليس في العالمين العربي والإسلامي فحسب، بل على الصعيد الدولي أيضاً.
الحکمة في المواجهة السعودية
عملية التصدي والمواجهة السعودية انطلقت من حقيقة مهمة جداً، يبدو واضحاً من خلالها أن القيادة السعودية المعروفة بحکمتها في التأني والتروي لمواجهة التهديد والتحدي الذي يتخذ من العامل الديني ليس غطاءً فقط، وإنما وسيلة أيضاً من أجل تحقيق أهداف وغايات لا علاقة لها بالدين، لن تستعجل في التصدي بدوافع عاطفية وإنفعالية وإنما سعت لکي تغلب العوامل العقلانية والمنطقية على مواجهتها لهذا التهديد والتحدي الخطير.
الحقيقة الأهم التي استوعبتها القيادة السعودية، تجسدت في أنها عرفت أن للتحدي الدولي الجديد هدفين أساسيين، أولهما الدين الإسلامي، والثاني المملکة العربية السعودية باعتبارها حامية وحاملة لواء الدفاع عن الدين الإسلامي والذود عنه بکل غال ورخيص، لا سيما أنَّ العتبات المقدسة للإسلام قد خصها الله بها، ومن دون شك فإنَّ هذا التحدي والتهديد العالمي الجديد کان سينجح بصورة أقوى وأشد لو کانت القيادة السعودية قد أخفقت في مواجهته، ولکان العالم الآن يسير في طريق واتجاه يختلف عن الطريق الحالي.
عدم الانجراف وراء الکيد الشيطاني وإنما رده الى نحره
التطرف الديني المقترن بالإرهاب کوسيلة من أجل جعله أمراً واقعاً، کان تحدياً غير عادي، لا سيما لو تمت مواجهته بنفس الطرق والأساليب الشيطانية التي لجأ إليها، لذلك فإن الضرورة کانت تقتضي من القيادة السعودية أن تستلهم طرقها وأساليبها في مواجهة هذا التحدي والتهديد من القرآن الکريم والسنة النبوية الشريفة، وهو أمر يجب التوقف عنده ملياً، ذلك أن القيادة السعودية أدرکت ووعت بعمق أن هذا العصر ليس کالعصور الأخرى، وأن الإسلام الذي هو أمانة إلهية في عنق المملکة وشعبها أمام الأمة الإسلامية، ينبغي المحافظة عليه کما يجب، وإنطلاقاً من المعاني والمفاهيم السامية التي حملها ويحملها للبشرية على مر العصور. ولعل أهم ما تنبهت إليه القيادة السعودية وراعته على الدوام في التصرف من حيث مواجهة الخطر والتهديد غير العادي هو التأني والتروي لإصدار القرارات، وهو ما يمکن النظر إليه من إنه يعتبر الحديث النبوي الشريف المعروف: "إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك فإن المنبتَّ لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى".
الاصالة والمعاصرة في مواجهة التحدي
هذا العصر، عصر العولمة والفضاء والإنترنت وثورة الجينات والتقدم العلمي المذهل في کل المجالات، يبدو واضحاً جداً أن القيادة السعودية الرشيدة قد عرضت هذا التحدي والتهديد على القرآن الکريم والسنة النبوية واستنبطت منهما الطرق والأساليب لمواجهة الخطر الداهم، ولذلك فقد رأت بأن رد الکيد الشيطاني الى نحره يعتمد على العودة إلى الأصل والعمق الشفاف للإسلام والمتجسد بالتسامح والتعايش وقبول الآخر، والأهم من ذلك اعتبار المتطرف والإرهابي کبداية مغرر به وخارج عن أصل الطريق السمح للإسلام وضروة العمل على إعادته للطريق من خلال توعيته وإرشاده.
هذه الطريقة والأسلوب الذي تعاملت وتعاطت به القيادة السعودية مع المغرر بهم کان في الحقيقة مصداقاً للآية الکريمة "أدع إلى ربك بالحکمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين". إنَّ النجاح السعودي الباهر في إعادة أعداد کبيرة من السعوديين المغرر بهم إلى الطريق الصحيح وجعلهم يعون أنهم يسيرون في طريق آخره الضلال والجحيم، کان في حد ذاته توجيه طعنة نجلاء لهذا الکيد الشيطاني وتأکيد الحقيقة الإلهية المعروفة لکل مسلم ومسلمة "إن لهذا البيت رب يحميه".
عهد الملك سلمان بن عبد العزيز عهد مفصلي
مع التأکيد على الموفقية النوعية للقيادة السعودية في مواجهة کيد التطرف الديني والإرهاب على الصعيد السعودي ورده إلى أهله، فإنَّ التطور غير المسبوق الذي حدث في السعودية خلال عهد الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين والطموح الأمير محمد بن سلمان، قد جاء مکملاً وبصورة ملفتة للنظر للتصدي السعودي للتطرف الديني والإرهاب، ذلك أن إيلاء هذا العهد الميمون للتسامح الديني والحوار والتنوع وفتح أبواب الحداثة والتطور في الفکر الديني قد أذهل العالم، لا سيما بعد صدور "وثيقة مکة"، بما تضمنته من طروحات ومبادئ غير عادية تجسد الماهية الحقيقية للدين الإسلامي وتدحض وتعري کل المحاولات والمساعي المشبوهة الجارية من أجل توظيف الکيد الشيطاني في تصوير الدين الإسلامي على أنه أساس التطرف والإرهاب ومهدهما، قد أثبت أن القيادة السعودية، لا سيما خلال عهد الملك سلمان والأمير محمد بن سلمان، تجعل من حماية الدين الإسلامي والمحافظة عليه من کل الشرور والمخاطر والتهديدات المحدقة به، مهمتها الاساسية، بل وحتى إن رٶية 2030، للأمير محمد بن سلمان، والتي جاءت أساساً امتداداً للمواجهة السعودية للتطرف الديني والإرهاب، حيث أن القيادة السعودية لم تکتف بعملها بالجوانب التوعوية والارشادية في مواجهتها المحتدمة والمصيرية مع الذين يعبثون بالدين الإسلامي وقيمه النبيلة، بل إنها منحت الجانب الحياتي أيضاً أهميته القصوى عندما سدت الأبواب بوجه الذين يستغلون عامل الفقر والحرمان لتحريف الأجيال الشابة واستخدامها من أجل تحقيق أهداف مشبوهة لا تمت للإسلام بصلة.
التعليقات