كان الإعلام الأميركي يشتغل على تسويق فكرة أن الاحتلال الأميركي كان سبباً في تطور وتقدم دول مثل ألمانيا واليابان بعد خسارتهما الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، وتعرضهما للاحتلال الأميركي، بكونهما يؤلفان دول المحور إضافة إلى إيطاليا، إذ وقفت دول المحور ضد دول الحلفاء وعمادها أميركا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا وغيرها.

الماكينة الإعلامية الأميركية تعلن أن مهمة أميركا هي نشر الديمقراطية في العالم، ودعم البلدان التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع أميركا أو تخضع لاحتلالها، لكي تستطيع النهوض على نحو يثير إعجاب العالم وتنافس في سلم الدول الصناعية والحضارية على جميع المستويات، كما حدث في اليابان وألمانيا وتحولهما بزمن قياسي إلى دول كبيرة وغنية متقدمة.

تضليل الرأي العالم العالمي كان يتم من خلال برامج إذاعة "صوت أميركا" بلغاتها المتعددة والإعلام الأميركي الناشط في دول أوروبا والشرق الأوسط والمراكز الثقافية العديدة، كما ركزت شركات السينما لهذه التوجهات في عرض مجتمع أميركا الذي يتمتع بالرفاهية والحرية المطلقة، وتأكيد فكرة الرجل الأميركي "السوبرمان" الذي يتمتع بالذكاء والقوة والشجاعة.

عندما حدث الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، كان الشعب العراقي فرحاً لسببين، أولهما الخلاص من نظام دكتاتوري أغلق الفضاء العراقي بالممنوع وتغييب الحريات وسلطة الحزب الواحد (حزب البعث) وأوامر الدكتاتور وأجهزته البوليسية القمعية، وثانيهما، وهو الأهم، أنَّ الدولة المحتلة للعراق كانت الولايات المتحدة الأميركية القوة العظمى، وهنا تحلقت أحلام العراقيين بعوالم كوكب اليابان وحياة الرفاهية والرقي التي يعيشها الشعب الألماني!

قصص المآسي والخراب وتدمير المجتمع العراقي وانهيار التعليم والثقافة والقيم الاجتماعية والإرهاب وانتشار ثقافة الكراهية خلال عشرين سنة مضت، صارت معروفة لجميع شعوب الأرض، بل أصبحت ودروساً بليغة المعنى لمن ينتظر تحقيق الحلم الأميركي في بلاده.

قيض لي زيارة اليابان عام 2008 ضمن وفد سياسي برعاية منظمة "جايكا" اليابانية للاطلاع على تجربة اليابان وكيف تجاوزت محنتها التاريخية بعد ضربها بالقنابل الذرية، وعوامل تقدمها وتطورها بعد خسارتها الحرب، كما زرت ألمانيا في السنة ذاتها في وفد إعلامي. وبالإطلاع الوافي على تجارب هاتين الدولتين، يمكن القول إنهما لم يعتمدا على الفكر والثقافة الأميركية. نعم استفادتا من دعم مالي ومساعدات أميركية مالية وسياسية، وتحولتا لدول ديمقراطية، لكن الدولتين اليابانية والألمانية اعتمدتا على موروثهما الفكري والحضاري وكفاءة العقول المبدعة، وفلسفة التحدي في تحويل خسارة الحرب إلى إنتصار بصنع حياة متقدمة في مناهج العمل والصناعة والتعليم والصحة وإعادة بناء الدولة وفق مشروع المواطنة والتمسك بالقانون والعلم والحداثة. لم تتبنَّ الدولتان ما يخطط له الأميركيون، وإنما اعتمدتا على خصائص مجتمعاتهما وتراثهما وقرارهما الوطني الذي كان يحرج الأميركان ويمنعهم من تحقيق ما يريدون، وزيادة في العلم أن أمريكا استثمرت بالعديد من العلماء الألمان واليابانيين ونقلتهم إلى امريكا للعمل في الحقول العلمية والفنية المختلفة.

ما حدث في العراق كان مشوهاً ومسيئاًً حتى على المستوى السياسي، فقد جاءت أميركا بمجموعة من الأحزاب والشخصيات السياسية المعارضة، وجلها من أحزاب الإسلام السياسي، فوزعوا السلطات بينهم بحسب المكونات، أي انتزعوا الشعب من المواطنية العراقية نحو الانتماء الفرعي والطائفي والقومي والاثني والمذهبي، وبهذا ارتكبوا جريمة التقسيم لما هو وطني ومتحد منذ مئات السنين، وأشاعوا فكرة الغُلبْ بين المكونات التي أنتجت صراعاً طائفياً وقومياً، ونظاماً هجينياً بعناوين ديمقراطية زائفة وبعيدة عن روح ومنهج الديمقراطية. فهل يعقل أن يكون العراق دولة ديمقراطية دستورية اتحادية، تتحكم بمقدراتها نحو أربعين ميليشيا!؟

أتحدث، ونحن على بعد أيام من انقضاء انتخابات فازت بها أحزاب وجماعات الإسلام السياسي والفصائل المسلحة وهي متموضعة في مراكز السلطة والنفوذ وتستحوذ على الأموال وكل ما موجود في البلاد، أن الديمقراطية في العراق تعني فقط الفوز بالانتخابات لتبقى ذات الأحزاب والشخصيات تمارس جميع أساليب الدكتاتورية من الاحتفاظ بالسلاح خارج نطاق الدولة إلى تقسيم الوزرات والسلطات والنفوذ في ما بينها، إلى التراجع على جميع مستويات الحياة الصناعية والزراعية، هكذا تفهم الديمقراطية التي جاءت بها أميركا للعراق.