منذ نشوب حرب غزة، يتباكى الرئيس التركي على الضحايا الفلسطينيين ولا يفوت فرصة لإدانة إسرائيل ووصفها بأبشع الصفات الإجرامية، مستنكراً المجازر التي ترتكبها ضد المدنيين في القطاع. وبطبيعة الحال، فإن تعاطف أردوغان مع الضحايا لا ينبع من اهتمامه بالقضية الفلسطينية واعترافه بحق تقرير المصير لهذا الشعب، بقدر ما ينبع من كون حماس حركة إسلامية إخوانية يجمعهما رابط مشترك وهو الانتماء الايديولوجي، وإلا كان من المفترض بأردوغان منذ لحظة وصوله لرئاسة الدولة التركية أن يقطع جميع علاقاته الدبلوماسية والاقتصادية مع دولة إسرائيل ما دامت دولة احتلالية ومغتصبة لحق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه!

لا نريد التحدث عن الحلم الأزلي لأردوغان ومحاولاته اليائسة لإعادة مجد الإمبراطورية العثمانية، ولا عن رغبته في قيادة وزعامة العالم الإسلامي، لأنَّ هذا الحلم لن يتحقق مهما حاول أردوغان وغيره من الإسلاميين الحالمين بأمجاد الماضي. لكن يهمنا أن نتحدث عن ازدواجية المعايير لدى الرئيس التركي في تعامله مع القضايا الإنسانية وتناقض مواقفه تجاه انتهاكات حقوق الإنسان في العالم.

في حين يدين أردوغان بأقسى العبارات العدوان الإسرائيلي على غزة ويتباكى على سقوط الضحايا هناك، لا تتوقف طائراته المقاتلة والمسيرة ولو للحظة عن ضرب الأكراد في إقليم كردستان العراق وفي الشمال الشرقي من سوريا بذريعة مطاردة وقتل أفراد وقيادات حزب العمال الكردستاني. وفي كل ضربة من هذه الضربات اليومية، يقع عشرات الضحايا من المدنيين من دون أن تتمكن هذه الطائرات من كشف وضرب قواعد حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من جبال قنديل مقراً لقيادته. وبحسب تقارير حكومة الإقليم، هناك نزوح جماعي من مئات القرى القريبة من جبل قنديل التي ترك سكانها ديارهم وبساتينهم وحقولهم بسبب تكرار تلك الضربات الجوية وقصفها بالمدفعية. بل ان هذه الطائرات المسيرة دخلت مؤخراً إلى عمق الأراضي العراقية من خلال قصف قرى وبلدات تبعد عن الحدود الدولية التركية بمئات الكيلومترات كالمناطق التابعة لمحافظة السليمانية. حتى أن النظام التركي لم يتردد في غلق أجواء بلاده أمام رحلات الطائرات المنطلقة من مطار السليمانية، في حين أن السليمانية لم تكن أبداً معقلاً أو مقراً لحزب العمال الكردستاني، مما يبطل الدعوات التركية بوجود هذا الحزب في المنطقة.

أمَّا في الجانب السوري، فبالرغم من حصول الإدارة الذاتية هناك على اعتراف دولي، وكون هذه الإدارة تضم مختلف أطياف المجتمع السوري بكافة مكوناته العرقية، وبالرغم من أنَّ المقاتلين الكرد هناك يخوضون حرباً ضروساً ضد تنظيم داعش نيابة عن المجتمع الدولي، لكن أردوغان ونظامه ينظرون إليها ككيان عدو لتركيا، ولهذا يبررون هجماتهم المتكررة على مناطق تلك الإدارة وبصورة يومية أيضاً توقع عشرات القتلى من المدنيين العزل.

استمرار الاعتداءات التركية على كل من إقليم كردستان وإقليم الإدارة الذاتية بشمال سوريا يمثل انعكاساً واضحاً لفشل أردوغان والحكومات التي سبقته في مواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني في الجبال المتاخمة للحدود مع تركيا. فبالرغم من عشرات الهجمات العسكرية وبمختلف مسمياتها، لم يستطع الجيش التركي، وهو جزء من قوات الناتو، أن يزحزح هذا الحزب من أي موقع يسيطر عليه في أرجاء المناطق الحدودية. هذا الفشل الذريع في تصفية الحزب جعل أردوغان ونظامه البائس يصبان غضبهما على السكان المدنيين العزل في هذين البلدين لتعويض خسائر الجيش التركي في مواجهاته وهجماته العسكرية واستخدام هذه الهجمات الوحشية كدعاية للاستهلاك المحلي وخداع المجتمع التركي ببطولات زائفة.

على سبيل المثال، أعلنت قيادة الجيش التركي قبل يومين أنها استطاعت تصفية أحد قياديي حزب العمال الكردستاني في محافظة السليمانية، وهللت وطبلت لهذا الانتصار المزعوم، في حين أنَّ بيان قيادة الحزب أعلن أنَّ هذا القيادي قتل قبل أكثر من تسعة أشهر في مواجهة سابقة مع الجيش التركي في شهر آذار (مارس) من العام الجاري.

انَّ الهجمات التركية المستمرة على قرى ومناطق إقليم كردستان العراق والإدارة الذاتية في شمال سوريا هي دليل على زيف ادعاءات أردوغان ونظامه بالتعاطف مع ضحايا الحرب في غزة، والمطلوب أن تبادر المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان للإسراع في تفقد أحوال الناس في هاتين المنطقتين المعرضتين إلى القصف اليومي من الطائرات والمدافع التركية لتوثيق جرائم أردوغان ونظامه وفضح ادعاءاته الفارغة، وعلى وسائل الإعلام العالمية التي تدعي الديمقراطية والمصداقية أن ترسل مراسليها ومندوبيها لبيان حقيقة ما يجري من حرب قذرة يشنها أردوغان ضد أبناء الشعب الكردي في الإقليمين، فليس الدم الكردي أقل شأناً من دم الفلسطيني أو العربي، خاصة أن معظم ضحايا هذه الاعتداءات هم من الأطفال والنساء والمدنيين العزل.